الأحد، 4 يناير 2015

تهافت الاستدلال بعدم النقل عن السلف


من أحد الاستدلالات الغريبة في العصور المتأخرة ، دليل ضعيف التركيب فقير التدعيم والمنطق والأساس ، ومع ذلك له استعمال واسع منتشر بين المشتغلين في القضايا الدينية للأسف ألا وهو الاستدلال في القضية المسكوت عنها ولا نص فيها بعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها وكذلك عدم نقلها عن السلف أو الجيل الأول تحديدا ، وصار هذا الاستدلال بمثابة إحدى مصادر التشريع والاختراعات الأصولية التي لا تقبل النقاش دون بينة واضحة لأساسياته .

أقول وباختصار :
في مثل هذه القضايا المسكوت عنها فإن نقل العدم ليس دليلا على العدم بل كل ما فيه أنك لا تعلم تحقق الفعل أو القضية ، وكونك لا تعلم عن تحقق الفعل أو القضية فهذا لا يعني أبدا الجزم واليقينية بعدم وقوعها ، وما كل ما فُعل ينقل ، ولا كل ما ينقل يعني صوابه وتحققه ، فكما أن نقل العدم ليس دليلا على العدم ، فكذلك في التراث الروائي فإني نقل الوجود ليس دليلا على الوجود ، ما لم يقترنا بقرائن اليقين وينتفيا من أضداده  ، فلم الاصرار يا سادة على الاستدلال بعدم وجود أدلة أو نقولات او روايات لمجرد ( أنكم أنتم ) لم تجدوا شيئا ولم تفهموا دلالة ، ومنذ متى صار جهل الإنسان بالشيء حجة على غيره !


الغريب أن من يستدل بهذا المنطق لا أجد له التفاتا إلى أي من القضايا التالية التي تشير بصراحة ووضوح إلى أن تراث النبي صلى الله عليه وسلم وعادات ونقولات الجيل الأول لم يسلم من الحذف أو التلاعب أو القمع ، لا أظن واعيا بالأحداث التاريخية لقضية تدوين السنة وما صاحبها سيستدل بهذا المنطق متغاضيا عن كثير العقبات التي لا يمكن تجاهلها .

أهم موانع الاستدلال بعدم الثبوت أو النقل عن الجيل الأول :

1- ضياع كثير من كتب الحديث والمسانيد أصلا :
كيف يمكن لأحد أن يستدل بعدم الورود جازما وكأن كل ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده قد نقل لنا كاملا غير منقوص ؟ هل يملك أحد الجزم بعدم النقل ليحرم قضية مسكوتة تتنازعها الاستدلالات وهناك كم هائل من السنة والأثر لا يزال في حكم المجهول ، من تلك الكتب كنماذج لا إحصاء وإلا فبعض الدارسين يشير إلى أعداد لا نتخيلها !
سنن أبي الحسن المصري ، سنن الوليد بن مسلم ، سنن ابن عدي ، سنن علي بن المديني ، السنن لإسماعيل القاضي ، السنة لابن أبي حاتم ، السنة لأبي بكر الأثرم ، السنة لأبي الشيخ ، السنة للعسال ، السنة للطبراني ، السنة لمحمد بن السري ، السنة للسجزي ، مسند ابن منيع ، مسند بقي بن مخلد ، مسند الحسن بن سفيان ، مسند عثمان الدارمي ، مسند ابن زيدان البجلي ، مسند قاسم بن أصبغ ، مسند ابن سنجر الجرجاني ، مسند مسدد بن مسرهد ، مسند ابن المقرئ ، مسند يحيى الحماني ، مسند ابن أبي عمر العدني.

2- تقلص عدد مصاحبي النبي صلى الله عليه وسلم قبل إدراك مرحلة الاهتمام الروائي ونقل الآثار سريعا ، بسبب الحروب والمعارك ، فمعركة اليمامة مثلا استشهد فيها سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فتأمل في غيرها ، الله أعلم بالحال الروائي والفهم الديني لو عاشوا .

3- القمع والطغيان والاستبداد الذي طال الجيل الاول :

كيف نستدل بعدم النقل عن الجيل الأول بيقينية ساذجة متجاهلين ما نجده من قمع وإبادات جماعية وإخراس للكلمة ؟! يبدو أن لمنطق السكوت عن المآسي والكوارث الحاصلة في الجيل الأول لها دور هنا لتعزيز مثل هذه الاستدلال ! من صور ذلك القمع :

أ – وقعة الحرة ومثيلاتها : قتل بها من الصحابة والبدريين العدد الذي لا يستهان لمجرد مطالبتهم بحق مشروع ، قتلوا ، وقتلت معهم عاداتهم وفهمهم للدين الذي لم يصلنا منه شيء بل نقلت أفهام وعادات من ظل بعدهم من قامعيهم ، ومرت الأيام فصارت أفهام قامعي الصحابة والبدريين مذاهب دينية سائدة يصعب إقناعها بمخالفتها القرآن .

ب- تصريح الرواة بالخوف من التحديث : في صحيح البخاري أن أبا هريرة قال حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعائين أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فكتمته ولو بثثته لقطع هذا الحلقوم !
يا للهول إن كان أكثر من نقلت عنه الرواية له مثل هذا التصريح فيعني أنه لديه مثل ما رواه لكنه مقموع خوفا على حياته لم يصرح به ولم ينقله !
يا ترى من تلك الجهة التي قمعت الرواة  ؟!
عاش أبو هريرة في عهد الخلافة الراشدة والعهد الأموي الذي نهض على دماء كثيرة ، فانظروا من أين جاء الخلل
هل يقول جازم بعد ذلك بوصول مرويات ذلك الجيل كاملة محفوظة غير مقموعة فضلا عن أفهامهم الدينية ؟

ب- ظاهرة الاغتيالات والتصفيات السياسية : ماذا نفسر وفاة مجموعة من أكابر شخصيات الجيل الاول إما سما او قتلا ؟ كسعد بن أبي وقاص والحسن وأبناء أبي بكر وابن خالد بن الوليد ؟ وغيرهم
ألئك كانوا من قادة المجتمع ، من المستفيد من قتلهم يا ترى ؟ أكانت تلك حوادث عشوائية أم خلفها منظم ؟ كيف نطمئن لاستدلالاتنا التاريخية ومثل هذه الحوادث الدالة على القمع والاستبداد موجودة ، إن كان قمع الأرواح حاضرا وبقوة في ذلك الجيل قإن قمع الكلمة أولى .

القمع والاستبداد والهيمنة على مدوني السنة والآثار :

1- لماذا تنتشر ظاهرة التفلين ( أي حذف الاسم الوارد في حادثة واستبداله بكلمة فلان ) في الأحاديث والروايات ؟ من المسؤول عنها ؟ لماذا يطمس بعض المحدثين الأسماء ونجدها عند البعض الآخر ؟ احتمالان : خوف أو تدليس ، وكلاهما يدل على انعدام أجواء أمينة للنقل واحترام الحقيقة والتاريخ .


2- رواية المدائني المحدث الثقة صاحب الكتب المفقودة – لا أظنها صدفة أو عبثا – رواية ذات دلالات واضحة على جدية التدخل السياسي في نقل الآثار ، أنتقي مما قال : كتب معاوية نسخة واحدة الى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل ابى تراب واهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرءون منه ويقعون فيه وفي اهل بيته ... وكتب معاوية الى عماله في جميع الافاق الا يجيزوا لاحد من شيعة على واهل بيته شهادة وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه واهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم واكتبوا لى بكل ما يروى كل رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته ... م كتب الى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابى تراب الا وتأتوني بمناقض له في الصحابة فان هذا احب الى واقر لعيني وادحض لحجة ابى تراب وشيعته واشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ... ثم كتب الى عماله نسخة واحدة الى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البينة انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة اخرى من اتهمتوه بمولاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدمو داره .


هل فهم النصوص القرآنية متوقف على فهم أحد ؟

القرآن يصرح بأن بيانه عليه لا على غيره ( إن علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه )
فبيان قضايا الدين لن يتوقف على عدم النقل عن السلف ، فلم الاستدلال ببشر حالهم مع النص حالنا ؟! فكيف لو أضفنا واقع مروايتهم التاريخي ؟

ولا تخفى الانتقائية في الاستدلال بهذا الدليل وعدم ضبطه فضلا عن عدم التفات المشرع الديني له

صلاة التراويح ... كيف اخترعت ؟ نظرة في تجربة عمر

لو كان عمر بن الخطاب حيا اليوم لواجه حملات تبديعية له بسبب استحداثه لصلاة التراويح وهي صورة لعبادة جديدة مخصصة بوقت بحجة عدم النقل عن السلف ولا عن النبي

لكن عمر لم يلتفت إلى ذلك المنطق

لكنه التفت إلى دلالات دينية عامة شكل منها صلاة التراويح

فقيام الليل مشروع ، وكذلك صلاة النافلة جماعة مشروعة ، فدمج بينهما لتظهر صلاة التراويح

وللعلم أكثر خلافات المتنازعين في القضايا الدينية الخلافية الصغيرة والجديدة هي من هذا النوع ، لو نظرت لها تاريخيا لن تجد لها أساسا قد ثبت ، ولو نظرت لها استدلاليات ستجد مما تركبت ، فهل من عيب بالأخذ بتراكيب الاستدلال في قضايا مسكوت عنها دينيا ؟ أم ينبغي التعنيف والمحاربة بحجة عدم النقل والثبوت والذي واقعه ما تقدم ؟



ختاما
ما كل ما فُعل نُقل ، ولا كل ما نُقل فُعل 

المعذرة عن عدم تنسيق السرد والصياغة فهذه كانت مجرد مسودة قديمة 



ومثل الأسباب الواردة هنا تصلح أيضا لبيان سبب التباين الشديد بين موضوعات القرآن وموضوعات الآثار ، وسبب غرابة التدين التراثي عن التدين القرآني ، وقايس الأمور واعرف الأشباه .

ودمتم منمنمين معرفة وبحثا
محمد الفودري

هناك 3 تعليقات:

  1. بارك الله فيك ..
    هل القرآن حرف ؟
    فما نقله إلا الرعيل الأول .. وآية .. وإنا له لحافظون .. منقوله .. وليس كل ما نقل فعل ..

    ردحذف
    الردود
    1. وفيكم بارك أخي الكريم

      القرآن نقل متواترا نقلا تحيل العادة تلفيقه

      الروايات التراثية السنية والشيعية التي تدعي تحريفه لم تقدم بينة تقاوم هذا التواتر

      هذا النقل المتوار للقرآن ليس متوفرا ولا حتى لرواية حديث واحد كما يصرح من رفض تواتر الأحاديث من المحدثين كابن الصلاح وغيره

      آية وإنا له لحافظون ، من قال أن الحفظ للقرآن ؟

      الآية تحتمل تفسيرين
      أن المحفوظ هو القرآن كما هو شائع عندنا
      والاحتمال الثاني أن المحفوظ هو النبي صلى الله عليه وسلم
      وسياق الآيات يحتمله
      لأن هذه الآية رد على من زعم ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون )
      فإنا له لحافظون تعني حافظون للنبي من الجنون والادعاء

      للتنبيه
      ليس كل مانقل فعل = بعض ما نقل لم يفعل
      ولا تعني أن كل ما نقل لم يفعل

      ودمتم بود يالغالي ^__^

      حذف
  2. بارك الله فيك ..
    هل القرآن حرف ؟
    فما نقله إلا الرعيل الأول .. وآية .. وإنا له لحافظون .. منقوله .. وليس كل ما نقل فعل ..

    ردحذف