الثلاثاء، 20 يناير 2015

في كفارات الصوم والاعتكاف وليلة القدر

ما يلي جزء من أطروحة الماجستير أنشره تيسيرا للباحثين
لقراءة الرسالة كاملة من هنا

كفارات الصوم

المطلب الأول : تعريف الكفارات :

الكفارة في اللغة : من كَفَرَ ، وهي تدور حول معنى واحد وهو الستر والتغطية ، ومن ذلك سمي الليل كافرا لأنه ستر بظلمته كل شيء ، ومنه سمي الكافر لأنه يستر نعم الله عليه ، وكفر التراب ما تحته أي غطاه ، ونحو ذلك من الاستعمالات[1].

الكفارة في الاصطلاح : " ما وجب على الجاني جبرا لما منه وقع وزجرا عن مثله "[2].

والكفارة بالمعنى السابق لا تخرج عن المعنى اللغوي فهي تستر الذنب وتمنع عنه .

المطلب الثاني : مشروعية الكفارات :

قد ورد ذكر الكفارات في القرآن الكريم ، فمن ذلك :

1- قوله تعالى : ( ﯓ  ﯔ  ﯕ   ﯖ  ﯗ  ﯘ  ﯙ  ﯚ  ﯛ  ﯜ  ﯝ   ﯟ  ﯠ   ﯡ  ﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ   ﯧ  ﯨ  ﯩ            ﯪ  ﯫ  ﯬ  ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ   ﯲ  ﯳ  ﯵ  ﯶ         ﯷ  ﯸ  ﯹ )[3].

2- قوله تعالى : (ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧ  ﯨ  ﯩ  ﯪ  ﯫ  ﯬ     ﯭ  ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ  ﯲ  ﯳ  ﯴ  ﯵ  ﯶ        ﯷ   ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ   )[4].

المطلب الثالث : كفارات الصوم :

أولا : مقدار فدية إطعام مسكين :

أباح الله عز وجل لمن يجهدهم الصوم الفطر مقابل فدية مقدرة بطعام مسكين وذلك في قوله : ( ﮁ  ﮂ      ﮃ  ﮄ   ﮅ  ﮆ )[5].

والآية جاءت مطلقة وبهذا يُترك المجال للعرف في التحديد ، أما عند المذاهب الأربعة فقد قدرها الجمهور بمد ، وقدرها الحنفية بمدين على خلاف في التفاصيل[6].

ثانيا : كفارة الفطر بالجماع في نهار رمضان :

اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب الكفارة على من أفطر عامدا بالجماع في نهار رمضان ، متمثلة بأحد ما يلي[7]:

1- عتق رقبة .
2- صوم شهرين متتابعين .
3- إطعام ستين مسكينا .

ومستندهم في ذلك ما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه رجل فقال: هلكت يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ ، قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فقال: هل تجد ما تعتق ؟ قال : لا. قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال: لا. قال : فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر ... قال: أين السائل؟ ، فقال: أنا. قال : خذ هذا فتصدق به . فقال الرجل : على أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرَّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك"[8].
























المبحث السابع
الاعتكاف

المطلب الأول : تعريفه :

في اللغة : من عكف أي أقبل عليه مواظبا ، وقيل عكف أي أقام ، ومنه قوله تعالى : (ﯵ  ﯶ   ﯷ)[9] أي مقيما ، والعكوف لزوم المكان والإقامة فيه ، والاعتكاف أي الاحتباس ، و منه قوله تعالى : (ﭭ   ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ)[10] أي محبوسا ، وإذا ذكر الاعتكاف في المسجد فيقصد به الإقامة بالمسجد على نية العبادة[11]، فحاصل معنى الاعتكاف أنه يدور حول معنى اللزوم .

أما في الشرع فالاعتكاف هو : اللبث في المسجد ولزومه من شخص مخصوص بنية مخصوصة[12].
وكان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم فإنه نبه على ذكر الإعتكاف بعد ذكر الصوم[13].

المطلب الثاني : مشروعيته وحكمه :

لا خلاف في مشروعية الاعتكاف وسنية حكمه من حيث الأصل ، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ، فمن تلك الأدلة :

من القرآن الكريم :
- قوله تعالى : (ﮀ     ﮁ  ﮂ   ﮃ  ﮄ  ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  ﮊ  ﮋ)[14].
وجه الاستدلال :
في ذكره تعالى الإعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[15].

ومن السنة النبوية :
- عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه و سلم : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده "[16].
وجه الاستدلال :
أن هذه المواظبة منه صلى الله عليه وسلم المقرونة بعدم الترك أبدا لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة رضوان الله عليهم كانت دليل سنية الاعتكاف ، وإلا كانت دليل الوجوب[17].

ومن الإجماع :
فقد أجمعت الأمة على مشروعية الاعتكاف وعلى أن حكمه سنة بالإجماع ولا يجب إلا بالنذر بالإجماع[18].

المطلب الثالث : وقته :

الاعتكاف مشروع ومستحب في جميع الأوقات والأزمنة ، ويتأكد استحبابه وسنيته في العشر الأواخر من رمضان[19].
ومستند ذلك هو حديث عائشة رضي الله عنها : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده "[20] .
والإجماع أيضا وقد سبق ذكره ، إلا أنه يستثنى من ذلك الإجماع الأيام التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صومها ، وهي أيام العيد وأيام التشريق ، وذلك للاختلاف في اشتراط الصوم في الاعتكاف[21]، فإن صح اشتراط الصوم في الاعتكاف سلم باستثناء العيدين وأيام التشريق من جواز الاعتكاف ، وإلا كان جائزا طوال السنة .
وسيأتي الحديث عن اشتراط الصوم في الاعتكاف ضمن الحديث عن أقل مدة الاعتكاف إن شاء الله تعالى .

المطلب الرابع : مدته :

اتفقت المذاهب الأربعة على أنه لا حد لأكثر مدة الاعتكاف[22]، بل قد نقل الإجماع على ذلك[23]، بينما اختلفوا في أقل مدة الاعتكاف على قولين :

القول الأول : أن أقل مدة الاعتكاف هي يوم وليلة ، وهو قول المالكية ورواية عن أبي حنيفة[24].

القول الثاني : أن الاعتكاف يحصل باللبث دون حد له ، وهو قول الجمهور[25].

أدلة القول الاول :
ذهب أصحاب القول الأول إلى أن أقل مدة الاعتكاف هي يوم وليلة وذلك بناء على اشتراطهم الصوم لصحة الاعتكاف ، فعلى هذا لا يكون الصوم أقل من يوم وليلة لأن انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل[26]، فإثبات صحة التقدير متوقفة على إثبات صحة اشتراط الصوم في الاعتكاف ، وقد استدلوا على أن الصوم من شروط الاعتكاف بأدلة من القرآن ومن السنة ومن آثار الصحابة ومن المعقول :

فمن القرآن الكريم :
- قوله تعالى : ( ﮀ     ﮁ  ﮂ   ﮃ  ﮄ  ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  ﮊ  ﮋ )[27].
وجه الاستدلال :
أن الله تبارك وتعالى ذكر الاعتكاف مع الصيام ، وهذا يفيد أنه لا اعتكاف إلا بصيام[28].
اعترض عليه :
أن ذكر الله تعالى لعبادة بعد عبادة أخرى ليس بموجب لعقد إحداهما بالأخرى ، فالقران في النظم لا يوجب القران في الحكم ، ولو صح هذا الاستدلال فلا فرق بينه و بين من يقول أن الله تعالى لما ذكر الصوم ثم الاعتكاف وجب ألا يجزئ صوم إلا باعتكاف ![29]

ومن السنة النبوية :
- ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا اعتكاف إلا بصيام "[30].
وجه الاستدلال :
أن الحديث نص في اشتراط الصوم مع الاعتكاف وأنه لا يصح إلا به[31].
اعترض عليه :
- أن الحديث ضعيف لا يصح ، ورفعه من هذا الطريق أو غيرها وهم ، والصحيح وقفه على عائشة رضي الله عنها كما سيأتي[32].

ومن آثار الصحابة :
- ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا فى مسجد جامع "[33].
وجه الاستدلال :
فقول عائشة رضي الله عنها " ولا اعتكاف إلا بصوم " صريح في اشتراط الصوم مع الاعتكاف .
اعترض عليه من وجهين :
الأول : أنه قول صحابي خالفه غيره من الصحابة فلا يكون حجة بالاتفاق وقد تقدم بيان ذلك ، وممن نقل عنهم عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث روي عنه " أنه كان لا يرى على المعتكف صياما إلا أن يجعله على نفسه "[34].
الثاني : بحمل الأثر على الاستحباب وأن النفي فيه نفي للكمال[35].
ومثل الاعتراضين السابقين يمكن قولهما في بقية آثار الصحابة التي تحكي اشتراط الصوم مع الاعتكاف ، ويكفي ثبوت اختلاف الصحابة فيما بينهم .

ومن المعقول :
أنه لبث في مكان مخصوص فأشبه الوقوف بعرفة ، فلم يكن بمجرده قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه هو في نفسه قربة كالإحرام مع الوقف بعرفة ، فيشترط له الصوم[36].
اعترض عليه من وجهين :
الأول : بقلب القياس ، بأن يقال : أن الاعتكاف لبث في مكان مخصوص ، فلم يشترط له الصوم كالوقوف بعرفة[37].
الثاني : بالتسليم أنه لا يكون قربة بمجرده ، ولكنه يكون قربة بالنية لا بالصيام[38].
ويجاب إجمالا عن أدلة مشترطي الصوم لصحة الاعتكاف بما يلي :
1- بالأدلة المصرحة بجواز الاعتكاف دون صوم ، ومنها ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه ... " الحديث إلى أن قالت : " وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال "[39].
وجه الاستدلال :
ذكر عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأول من شوال فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن أول شوال هو يوم الفطر وصومه حرام[40].

2- من القياس والمعقول : أنه لو كان الصوم شرطا لصحة الاعتكاف لما صح اعتكاف الليل لأنه لا صيام فيه ، وأيضا لأنه عبادة تصح في الليل فلم يشترط لها الصيام كالصلاة ، ولأنه  عبادة تصح في الليل فأشبه سائر العبادات ، وأيضا لأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع[41].

3- وأخيرا وهو الأهم والمتعلق بالمسألة الأصلية : على فرض صحة اشتراط الصوم في الاعتكاف ، فلم ينقل في الأدلة المشترطة للصوم أي دليل يفيد تحديد مدة الاعتكاف وليس فيها أي تطرق للمدة أبدا ، فلو سلم بهذا الشرط فلا مانع أبدا من أن يعتكف المرء ساعة في يوم يكون فيه صائما[42].

أدلة القول الثاني :
استدل أصحاب القول الثاني بأدلة من القرآن الكريم ومن قول الصحابي ومن اللغة ومن المعقول :

فمن القرآن الكريم :
قوله تعالى : (ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  ﮊ  ﮋ)[43].
وجه الاستدلال :
أن الله تعالى أطلق ذكر الاعتكاف ولم يحده بوقت ولم يقدره بمدة ، فهو على إطلاقه ولا يجوز تخصيصه بغير دلالة [44].

ومن قول الصحابي :
- ما روي عن يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه قال : " إني لأمكث في المسجد الساعة ، وما أمكث إلا لأعتكف "[45].
وجه الاستدلال :
أن في الأثر دلالة على أن المكث بلا حد له يكون اعتكافا ، وهو قول صحابي لا يعرف له مخالف من الصحابة رضوان الله عليهم[46].

ومن اللغة :
- أن الاعتكاف في اللغة هو الإقامة واللزوم كما في قوله تعالى : (ﮫ  ﮬ  ﮭ    ﮮ           ﮯ  ﮰ  ﮱ   )[47] أي مقيمون متعبدون لها ، والاعتكاف بهذ المعنى يقع على قليل الوقت وكثيره ، ولم يحده الشرع بشيء يخصه فبقى على أصله[48].

ومن المعقول :
أن تحديد مدة الاعتكاف لا يصح إلا بتوقيف أو اتفاق وهما معدومان ، فالموجب لتحديده متحكم قائل بغير دلالة[49].

الترجيح :
يظهر بعد النظر والتأمل في المسألة رجحان القول الثاني وهو أن الاعتكاف يحصل باللبث دون حد له ، وذلك لقوة أدلتهم وتمسكهم بالأصل ، ويظهر أن أدلة القول الأول المحدد لأقل مدة الاعتكاف غير متطرقة أبدا لذكر حد للاعتكاف واكتفت بكون اشتراط الصوم دليلا على المدة التي قدروها ، ولكن هذا الاستدلال غير كاف في إثبات المدة والتقدير ولا يقوى على مخالفة الأصل .
ويظهر أيضا من خلال التطرق لمسألة اشتراط الصوم للاعتكاف رجحان القول بأن الصوم ليس شرطا في الاعتكاف لقوة أدلته وضعف معارضها ، وعلى هذا يتضح أن الاعتكاف مشروع طوال السنة ولا يستثنى من ذلك العيدان وأيام التشريق .
أما إذا قيل باشتراط الصوم في الاعتكاف فإن الأيام التي يحرم صومها لا يجوز فيها الاعتكاف كما أنه لا يصح اعتكاف ليلة مفردة ولا بعض يوم ولا ليلة وبعض يوم بناء على هذا الاشتراط إلا إن لم يؤخذ بالتحديد الوارد في القول الأول فيجوز حينها صيام ما يتجزأ من الأيام دون الليالي[50]، والله أعلى وأعلم .


















المبحث الثامن
التراويح وليلة القدر

المطلب الأول : التراويح :

أولا : تعريفها :

- هي في اللغة : جمع ترويحة أي المرة الواحدة من الراحة ، وهي اسم للجلسة مطلقا وهو أصل تسميتها ، ثم اشتهرت بها الجلسة التي تأتي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان لاستراحة الناس بها ، ثم سميت الركعات بها مجازا ، فيقال من يروح في مسجدكم ؟ أي من يصلي بكم التراويح[51].

- وفي الاصطلاح : هي قيام رمضان[52].

ثانيا : مشروعيتها :

تقدم أن التراويح ما هي إلا قيام الليل في رمضان ، ولا نزاع بين الأمة في في فضيلة قيام الليل وخاصة في رمضان ، فمن أدلة المشروعية :

- قوله تعالى : (ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮀ   ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ   ﮆ  ﮇ  ﮈ   )[53].
وجه الدلالة :
الآية واردة في فضل قيام الليل ، فالتهجد هو ضرب من صلاة قيام الليل وهو لا يكون إلا بعد نوم ، ويطلقه البعض على قيام الليل مطلقا[54].

- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه "[55].
وجه الدلالة :
أن الحديث صريح في مشروعية وفضل قيام الليل في شهر رمضان .

ثالثا : عدد ركعاتها :

اتفق العلماء – كما قد نقل إجماعهم - على أنه ليس لعدد ركعات صلاة التراويح حصر أو تحديد ، وإن كان هناك من يصليها وفق مقدار معين من الركعات فذلك من باب العادات السائدة أو الاختيارات الشخصية كأحد عشر ركعة أو ثلاثة عشر ركعة أو عشرين ركعة ونحوها ، فالأمر في هذا واسع سواء في وقت الصلاة من حيث تقديمها أو تأخيرها أو في عدد الركعات وصفاتها من حيث الطول والقصر ، ولم يقم نص صريح يثبت أن لها عددا معينا ينبغي ألا يتجاوز أو يلتزم[56]، والله تعالى أعلم .

المطلب الثاني : ليلة القدر :

أولا : تعريفها :

ليلة القدر مركبة من كلمتين :
الأولى : ليلة : وهي في اللغة : بخلاف النهار ، وحدها من مغرب الشمس إلى طلوعها ، أو إلى طلوع الفجر الصادق[57].
والمعنى الشرعي يوافق المعنى اللغوي الذي يحد الليل إلى طلوع الفجر الصادق[58].
وسبق تعريف القدر في اللغة بتوسع وأن من معانيه  : الحكم والقضاء الموفق الذي يقضي به الله على عباده ، ولعل تسميتها بليلة القدر جاءت من هذا المعنى .

أما في الاصطلاح فعرّفت بأنها : " ليلة الحكم والفصل ، وذلك لقوله تعالى عنها (ﭠ  ﭡ  ﭢ     ﭣ  ﭤ   )[59] أي تكتب الملائكة بيان ما يصير في تلك السنة"[60].
وفي سبب تسميتها بليلة القدر خمسة أقوال[61]:

1- لعظمتها ، من قوله تعالى : ( ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  )[62].

2- من التضييق ، من قوله تعالى: ( ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ   )[63] أي ضاق لأنها ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة .

3- لما يقدر فيها من الأشياء وتقدير الأرزاق ، وقد تقدم .

4- أن من لم يكن فيها ذا قدر صار فيها ذا قدر .

5- لأنها نزل فيها كتاب ذو قدر وتنزل فيها ملائكة ذوو قدر ورحمة ذات قدر .

ثانيا : فضلها ومشروعيتها :

دلت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على فضل ليلة القدر ومشروعيتها ، فمن ذلك :

- من القرآن الكريم :
- قوله تعالى : ( ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ،  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ      ،   ﭝ  ﭞ         ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ   ،  ﭤ  ﭥ  ﭦ   ﭧ  ﭨ   ﭩ  ﭪ  ﭫ           ﭬ    ،    ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ         )[64]
فالقرآن الكريم نزل في ليلة القدر ، والعبادة فيها خير من ألف شهر لا تحتوي على ليلة القدر ، كما أن الملائكة تنزل فيها ؛ قيل لتؤمن على دعاء الناس ، وهي خير لا شر فيها حتى مطلع الفجر[65].

- من السنة النبوية :
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر لله ما تقدم من ذنبه "[66].
فيرجى لمن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا أن تغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها[67].

- ومن الإجماع :
- نقل الإجماع على فضل ليلة القدر وأنها أفضل الليالي[68].

ثالثا : تحديدها :

اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر اختلافا كبيرا حيث بلغت أقوالهم في تحديدها أكثر من أربعين قولا[69]، ويمكن إيجاز هذه القضية بعيدا عن تشعباتها الواسعة في هذه الخلاصة :

بالنظر في كتاب الله تعالى فهو يبين أن ليلة القدر في رمضان ، لأن الله أخبر أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وأنه أنزله في رمضان فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان[70]، كما أن القرآن يشير إلى بقاء ليلة القدر واستمراريتها بدليل التعبير بالفعل المضارع في قوله تعالى : (ﭤ  ﭥ    ) فهو مؤذن بأن هذا التنزّل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة[71]، ومثل هذا يقال أيضا في قوله تعالى : (ﭠ  ﭡ ) .
فالمعطيات القرآنية إذن تفيد استمرارية وتكرار ليلة القدر كما أنها تفيد حصرها في رمضان ، ومن هنا يمكن تناول الخلاف في تحديد ليلة القدر ، وبالنظر في عموم الأقوال فإنه يمكن تقسيمها إلى قسمين :
القسم الأول : القول بحصرها في العشر الأواخر دون تحديدها بليلة معينة منها ، وإلى هذا ذهب جمهور المذاهب الأربعة ، ومنهم من يحدد ليلة بعينها ومعتمدهم في ذلك مجموعة من أدلة السنة النبوية وأقوال الصحابة[72].
والقائلون بحصر ليلة القدر في العشر الأواخر بينهما خلاف فهل هي ثابتة في ليلة بعينها أم أنها تنتقل في ليالي العشر الأواخر كل سنة ؟ والخلاف هنا لفظي إذ أن الفريقين متفقان على جهالة ليلة القدر وحصرها في العشر الأواخر مما يترتب عليه الاجتهاد طيلة ليالي العشر الأواخر سواء قيل بثبات ليلة القدر بليلة منها أو بتنقلها فيها ، فالأثر واحد ، أما من يحدد ليلة بعينها في العشر فقوله معارض بتحديد الآخر ويفضي إلى القول بالتنقل .

القسم الثاني : وهو تلك الأقوال التي ترى باستحباب تحريها في كل ليالي رمضان دون تحديد ، أو أنها تحدد ليلة خارج نطاق العشر[73]، فأصحاب هذا القسم يتفقون بتحديدها في رمضان لكن يرفضون حصر ليلة القدر بالعشر الأواخر .
ويجيب بعضهم عن الأدلة المفيدة لكونها في العشر الأواخر بأن المراد منها ذلك الرمضان الذي كان عليه الصلاة والسلام التمسها فيه ، وأن السياقات تدل على هذا المعنى لمن تأمل طرق الأحاديث وألفاظها[74].

كما أن بعض التحديدات خارج نطاق العشر الأواخر لها أدلة وجيهة كتحديدها بليلة يوم بدر ، وذلك لقول الله عز وجل : ( ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ   ﭫ  ﭬ   ﭭ )[75] أي يوم الالتقاء بالمشركين يوم البدر[76]، وواضح أن من يقول بهذا يفسر الفرقان بالآية بمعنى القرآن وهو وارد ، وبناء عليه فإن ليلة القدر محتملة في ليلة السابع عشر أو التاسع عشر من رمضان وذلك للاختلاف في تحديد يوم غزوة بدر[77].

الترجيح :

الاختلاف في ليلة القدر من المواضيع التي تتطلب التحوط ، وأقوى الدلائل أنها منحصرة في رمضان ، وأما أنها محصورة في العشر الأواخر فمحتمل ووارد كما يحتمل أيضا عدم انحصارها في العشر خاصة مع وجود أقوال أخرى تحدد ليال خارج العشر ولأدلتها وجاهة ، وكذلك إن قيل بتنقل الليالي فعدم حصر التنقل في ليالي العشر الأواخر وارد ومحتمل أيضا  فالأسلم والأحوط تعميم الجد والاجتهاد طيلة ليالي الشهر الفضيل لضمان عدم إضاعة ثواب خير الليالي ، والله أعلى وأعلم .




[1] معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس (5/191) ، مختار الصحاح لمحمد الرازي ص 239 ، أساس البلاغة لمحمود الزمخشري ص 547 ، لسان العرب لابن منظور الأفريقي (5/144) .
[2] التوقيف على مهمات التعاريف لمحمد المناوي ص 606 .
[3] المائدة : 89 .
[4] المائدة : 95 .
[5] البقرة : 184 .
[6] انظر : الهداية شرح البداية لعلي المرغياني (1/127) ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي (1/223) ، الحاوي الكبير لعلي الماوردي (3/465) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/37) .
[7] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني (2/98) ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي (1/220) ، الأم  لمحمد الشافعي (2/98) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/25) ، كما قد نقل عن بعض المتقدمين رفض إيجاب الكفارة وذلك قياسا على عدم الكفارة عند تعمد إفساد الصلاة ، انظر: المجموع شرح المهذب ليحيى النووي (6/344) .
[8] رواه البخاري في صحيحه ، رقم :1936، ومسلم في صحيحه ، رقم :1111 .
[9] طه : 97 .
[10] الفتح : 25 .
[11] العين للخليل بن أحمد (1/205) ، لسان العرب لان منظور الأفريقي (9/255) ، المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وآخرين (2/619) .
[12] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان الزيلعي (1/347) ، الذخيرة لأحمد القرافي (2/535) ، المجموع ليحيى النووي (6/468) ، الشرح الكبير لعبد الرحمن بن قدامة (3/117) .
[13] تفسير القرآن العظيم لإسماعيل بن كثير (1/225) .
[14] البقرة : 187 .
[15] تفسير القرآن العظيم لإسماعيل بن كثير (1/225) .
[16] رواه البخاري في صحيحه (2/713) كتاب الاعتكاف ، باب الاعتكاف في العشر الأواخر ، رقم : 1922 ، ورواه مسلم في صحيحه (2/830) رقم : 1172 .
[17] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد المباركفوري (3/421) .
[18] الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر القرطبي (3/385) ، المجموع ليحيى النووي (6/469) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/63) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (4/272) .
[19] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان الزيلعي (1/348) ، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأحمد النفراوي (1/320) ، المجموع ليحيى النووي (6/496) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/63) .
[20] رواه البخاري في صحيحه (2/713) كتاب الاعتكاف ، باب الاعتكاف في العشر الأواخر ، رقم : 1922 ، ورواه مسلم في صحيحه (2/830) رقم : 1172 .
[21] الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر القرطبي (3/385) ، الكافي في فقه أهل المدينة لان عبد البر القرطبي ص 131 ، المجموع ليحيى النووي (6/469) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/63) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (4/272) .
[22] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني (2/115) ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي (1/229) المجموع ليحيى النووي (6/480) ، الإنصاف لعلي المرداوي (3/385) .
[23] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (4/272) ،
[24] الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر القرطبي ص 131 ، المبسوط لمحمد السرخسي (3/117) .
[25] المبسوط لمحمد السرخسي (3/117) ، شرح فتح القدير لابن الهمام السيواسي (2/392) ، المجموع ليحيى النووي (6/480) ، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار لتقي الدين الحصني ص 208 ، الفروع لابن مفلح المقدسي (3/118) ، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلي المرداوي (3/359) .
[26] بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي (1/230) ، الذخيرة لأحمد القرافي (2/542) .
[27] البقرة : 187 .
[28] موطأ الإمام مالك لمالك بن أنس (1/315) .
[29] المحلى لعلي بن حزم (5/182) ، البحر المحيط لمحمد الزركشي (4/397) .
[30] رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/317) كتاب الصوم ، باب المعتكف يصوم ، رقم : 8842 ، وسيأتي ذكر حكمه .
[31] أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1/305) .
[32] قال البيهقي عن هذا الحديث " وهذا وهم من سفيان بن حسين أو من سويد بن عبد العزيز وسويد بن عبد العزيز الدمشقى ضعيف ... لا يقبل منه ما تفرد به " وقال أيضا في عموم الرفع : " الصحيح موقوف ورفعه وهم " ، انظر السنن الكبرى لأحمد البيهقي (4/317-318) .
[33] رواه أبو دواد في سننه (2/310) كتاب الصوم ، باب المعتكف يعود المريض ، رقم : 2475 ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4/317) كتاب الصوم ، باب المعتكف يصوم ، رقم : 8841 ، وقال ابن حجر في بلوغ المرام ص 202 : " ولا بأس برجاله " .
[34] رواه البيهقي في السنن الكبرى وصحح وقفه (4/318) كتاب الصوم ، باب من رأى الاعتكاف بغير صوم ، رقم : 8849 ، ورواه ابن حزم في المحلى (5/181) .
[35] المغني لابن قدامة المقدسي (3/65) .
[36] أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1/306) .
[37] المغني لابن قدامة المقدسي (3/65) ، المحلى لعلي بن حزم (5/186) .
[38] المصدر السابق .
[39] رواه مسلم في صحيحه (2/830) كتاب الاعتكاف ، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف معتكفه ، رقم : 1172 .
[40] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (4/276) .
[41] المغني لابن قدامة المقدسي (3/65) .
[42] المحلى لعلي بن حزم (5/180) .
[43] البقرة : 187 .
[44] أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1/305) ، المحلى لعلي بن حزم (5/180) .
[45] رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/346) كتاب الاعتكاف ، باب الجوار و الاعتكاف ، رقم : 8006 ، واحتج به ابن حزم في المحلى (5/180) .
[46] المحلى لعلي بن حزم (5/180) .
[47] الأنبياء : 52 .
[48] المجموع ليحيى النووي (6/480) ، المحلى لعلي بن حزم (5/179) .
[49] أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1/304) ، المحلى لعلي بن حزم (5/179) .
[50] المغني لابن قدامة المقدسي (3/65) .
[51] تاج العروس للمرتضى الزبيدي (6/422) ، أساس البلاغة لمحمود الزمخشري ص 256 ، المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وآخرين (1/380) .
[52] شرح النووي على صحيح مسلم (6/39) ، المغني لابن قدامة المقدسي (1/455) .
[53] الإسراء : 79 .
[54] حاشية رد المحتار على الدر المختار لمحمد أمين (1/359) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن أحمد (2/211) .
[55] رواه البخاري في صحيحه (1/22) رقم : 73 ، ورواه مسلم في صحيحه (1/523) رقم : 759 .
[56] انظر : الاستذكار الجامع لمذاهب علماء الأمصار لابن عبد البر القرطبي (2/102) ، مجموع الفتاوى لأحمد بن تيمية (23/12،120) ، سبل السلام في شرح بلوغ المرام لمحمد الصنعاني (2/10) .
[57] انظر : تاج العروس للمرتضى الزبيدي (30/374) ،  لسان العرب لابن منظور (11/607) ، المعجم الوسيط (2/850).
[58] المعجم الوسيط (2/850) .
[59] الدخان : 4 .
[60] تحرير ألفاظ التنبيه ليحيى النووي ص 127 .
[61] انظر : المطلع على أبواب المقنع لمحمد البعلي ص 155 .
[62] الأنعام : 91 .
[63] الطلاق : 7 .
[64] القدر : 1 - 5 .
[65] انظر : الجامع لأحكام القرآن لمحمد القرطبي (20/129) .
[66] رواه البخاري في صحيح (1/21) رقم : 35 ، ومسلم في صحيحه (1/523) رقم : 760 .
[67] المجموع ليحيى النووي (6/406) .
[68] كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور البهوتي (2/345) .
[69] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (4/262) .
[70] المغني لابن قدامة المقدسي (3/60) .
[71] تفسير التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور (30/461) .
[72] انظر : فتح القدير لمحمد السيواسي (2/389) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام لمحمد ملا خسرو (3/15) ، الذخيرة لأحمد القرافي (2/550) ، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لمحمد الحطاب (2/464) ، الحاوي الكبير لعلي الماوردي (3/484) ، روضة الطالبين ليحيى النووي (2/389) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/60) ، الفروع لمحمد بن مفلح (3/105) .
[73] فتح القدير لمحمد السيواسي (2/389) ، حاشية ابن عابدين لمحمد أمين (2/542) ، القوانين الفقهية لابن جزي الكلبي ص 85 ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/60) .
[74] فتح القدير لمحمد السيواسي (2/390) .
[75] الفرقان : 41 .
[76] سيرة ابن إسحاق لمحمد بن إسحاق (2/110) .
[77] انظر : سيرة ابن إسحاق لمحمد بن إسحاق (2/110) ، تاريخ الطبري لمحمد بن جرير (2/19) .