الاثنين، 15 فبراير 2016

هل تخلى الله عن الكتاب المقدس ؟ نظرة قرآنية مع تطبيق على قصص الأنبياء


هل تخلى الله عن التوراة والإنجيل ؟ نظرة قرآنية مع تطبيق على قصص الأنبياء


تقدم دراسة مقارنة الأديان خدمة جليلة للأديان نفسها بمذاهبها ، فمن يرى اختلافات الأديان هانت عليه اختلافات مذاهب دينه ، فلأجل تعايش سلمي هي حتم لا ترف .
كيف وإن كانت مقارنة الأديان ومخاطبتها والاعتداد بكتبها المقدسة  – خاصة اليهودية والمسيحية - غاية إسلامية مصرحا بها في القرآن  ؟!

هذا ما أود استعراضه في هذه النظرة الشخصية التي أجدها منسجمة مع روح النص القرآني والرحمة الإلهية الشاملة للبشرية أكثر من غيرها من الأطروحات .

في البدء لا بد من معالجة الفكرة الشائعة عن كون البعثة المحمدية للعرب خاصة وللناس عامة ، إذ هي تحدق بلغة القرآن وتغفل النظر إلى موضوعاته وخطاباته التي تظهر بقوة  أن خصوصية الخطاب القرآن هي لذرية النبي إبراهيم عليه السلام الأب الروحي للديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية ، دون نزاع في صراحة عالمية الخطاب القرآن المتجلية .

يدل على تلك الخصوصية تردد استعمال القرآن لاسم النبي إبراهيم كأيقونة للبيت الإبراهيمي بذريته ، وكثافة نصوصه الواردة عن " بني إسرائيل " و " أهل الكتاب " .
بل يشير القرآن الكريم أن واحدة من غاياته هي فصل خلافات بني إسرائيل ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) ، ويقول ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ) .

فإذا فهمنا ذلك علمنا سبب غزارة ذكر قصص بني إسرائيل من الديانتين اليهودية والمسيحية وقضاياهم ، وأن ذلك عن سبق إصرار وتعمد ، لا عن سهو واختلاس كما تشير بعض القراءات التي تنقصها النظرة الشمولية ، وعلمنا أيضا مخطط القرآن في تعامله مع انحرافات الكتاب المقدس إذ كانت انتقائية مقصودة لم يتعمد تتبعها بالتفصيل كلها .

بعد هذه اللفتة إلى كون مخاطبة البيت الإبراهيمي مقصدا قرآنيا ، يمكن التساؤل : كيف كانت العلاقة بين القرآن الكريم والكتاب المقدس ؟ إجابة هذا السؤال جزء من إجابة سؤال أكبر منه وهي ما علاقة الإسلام باليهودية والمسيحية ؟ أفضل الاقتصار على إجابة السؤال الأول والذي يكشف بدوره الخلل في فهمنا  لإجابة السؤال الثاني ...

الإجابة التقليدية المنتشرة على هذا السؤال تدعي أن القرآن قد أنهى دور الكتاب المقدس – والذي هو عبارة عن التوراة والإنجيل معا – بحجة كونه ناسخا ومبطلا لهما ومصرحا بتحريفهما وانحرافهما .

لكن ما أن تمرر تلك الإجابة تحت مجهر القرآن فسيظهر لك نقصها .

هي إجابة ناقصة لأنها نظرت فقط إلى النصوص المفيدة للتحريف وأغفلت الأخرى ، فالأكثر
يستشهد دائما بنصوص القرآن الكريم الدالة على التحريف كقوله تعالى ( يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) ، ( وتخفون كثيرا ) ونحوها . لكن يغفل الآيات التي لها مدلولات أخرى .

تشير نصوص القرآن أيضا إلى وجود الحقانية  والهداية في التوراة والإنجيل بنصوص صريحة غريبة على الفهم السائد ، ففي سورة آل عمران  : ( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل ، من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان ) ، وهو افتتاح مدهش لسورة قرآنية تقصد لمخاطبة أهل الكتاب ، لا نظن أن الله يجامل أو يحابي أحدا حاشاه تعالى عن الخداع ، لذا لا يمكن أن يُحمل مطلع هذه السورة - الذي يأتي بالقرآن والتوراة والإنجيل في سياق واحد على أنها كتب هداية للناس  - على أنه تزلف وتقرب لأهل تلك الكتب ، بل لأنها حقيقة كذلك .

في سورة المائدة نجد صراحة أشد وأظهر ، منها ذلك السياق الاستنكاري لمجيء اليهود إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم مع تجاهلهم للتوراة الموجودة لديهم ذات الحكم الرباني ، يقول تعالى ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ) ليصرح القرآن بعدها ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) وصيغة المضارعة في الفعل ( يحكم ) دالة على الاستمرارية لا الانتهاء ، بل ختام الآية والتي تليها ( ومن ليحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون – الظالمون ) في سياقات خصوصيتها أقرب لمن لم يُحَكِّم التوراة من اليهود ، أكثر من كونها في من لم يحكم بالشريعة من المسلمين كما هو شائع عندنا !

الأشد صراحة ويؤكد ما سبق ما جاء في سياق الحديث عن الإنجيل ووصفه بأنه هدى ونور وموعظة للمتقين  : ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) والسياق صريح هنا بأن ما أنزل الله عائد إلى الإنجيل ، بل إننا نتورط في اعتباط لغوي وجناية على العربية حين نقطع خواتم هذه الآيات لنجعلها في الشريعة الإسلامية خصوصا بينما مقصود سياقها الظاهر هو التوراة والإنجيل !

هذه الآيات تقتضي منا مراجعة جدية لفكرتنا الشائعة عن الكتاب المقدس إذ لا يستحق تلك النظرة المنتقصة بإطلاق ، بل ينظر إليه نظرة تحتكم للقرآن الذي كما نص على وقع التحريف فيه فإنه نص على وجود الهداية والنور والعظة أيضا ، ولا تزال ملحوظة لمن يقرأ الكتاب المقدس قراءة منفتحة .

مع التأكيد أن القرآن ينص على كونه ( مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) فكلمة الفصل في الاختلاف بين الكتاب المقدس والقرآن هي للأخير ، كما أن قواعده التي أرساها منطبقة ينبغي الأخذ بها في رحلة دراسة الكتاب المقدس .

فمثلا عندما ينص القرآن على كون الأنبياء محل هداية واقتداء للبشر ، علمنا من ذلك الاعراض عن ما ينقل عن الأنبياء من إساءات في الكتاب المقدس ، ندع ما كدر ونأخذ ما صفى ، دون إجحاف ودون مبالغة ، بهذا تتحقق الهيمنة للقرآن الكريم خاصة في تصويب الكتاب المقدس وتقويمه .

لكن ماذا عن تصديق القرآن للكتاب المقدس ؟ هل أيده واعتمد عليه ؟ خير مثال واستدلال هنا القصص القرآنية الإسرائيلية وذلك التعاضد المتناغم المحير بينهما .

تقرأ القصة في القرآن وفي التوراة فتجدها لا تكتمل إلا بجمع القراءتين المتناغمتين ، القرآن يجمل والتوراة تفصل ، فإن أجملت التوراة فصل القرآن !

كيف ذلك ؟ ( في الأمثلة تصرف واختصار )

في قصة إبراهيم عليه السلام حين جاءته الملائكة لتبشيره بإسحاق وإخباره عن عذاب قوم لوط
نقرأ في التوراة حوارا دار بين إبراهيم وربه :
يقول إبراهيم : أتهلك الصدِّيق مع الشرير؟ ربما كان في المدينة خمسون صديقا، أتهلكها كلها ولا تصفح عنها من أجل الخمسين صديقا فيها؟
فقال الرب: إن وجدت خمسين صديقا في سدوم صفحت عن المكان كله إكراما لهم .
ثم يقلل إبراهيم العدد المطلوب لنجاة قوم لوط من الصديقين حتى يصل إلى العشرة فيقول : لا يغضب سيدي فأتكلم لآخر مرة: وإن وجدت هناك عشرة؟
قال الرب : لا أزيل المدينة إكراما للعشرة .

انتهى الحوار في التوراة

لحظة أين التكملة ؟ كم صدِّيقا كان في القرية ؟ أين نهاية القصة ؟

صمتت التوراة  ، فقال القرآن : ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين )

ليس من عادة القرآن أن ينص على عدد من نجى ، بل ذكره للعدد هنا ملفت ،  أليس في هذا إشارة قوية على إكمال القرآن للحوار في التوراة ؟ ( مصدقا لما بين يديه من الكتاب )

وفي قصة يوسف في القرآن نقرأ أن إخوة يوسف حين دخلوا عليه قال لهم ( ائتوني بأخ لكم من أبيكم ... فإن لم تأتون به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون )

كيف عرف يوسف أن لهم أخا ولماذا كان سيمنعهم من الكيل بناء عليه ، في القصة القرآنية حذف متعمد لا أراه سوى إحالة إجبارية للكتاب المقدس .
وحسن ما فعله المفسرون المسلمون هنا ، إذ هم قد لجؤوا إلى الكتاب المقدس لمعرفة هذا التفصيل الذي أخفاه القرآن لنجد أن القصة في التوراة هي حيلة من يوسف ليعرف أخبار أبيه ويرى أخاه فاتهمهم بكونهم جواسيس جاؤوا لمعرفة نقاط ضعف مدينته ، فدافعوا عن أنفسهم بذكر سبب مجيئهم وعدد أفرادا عائلتهم – وهذا ما أراده يوسف – لذا طلب منهم بعد ذلك أن يأتوا بذلك الأخ الذي تكلموا عنه كإثبات على صدقهم ولنفي تهمة التجسس عنهم .

وبهذه التكملة التوراتية يحل لغز الإيجاز القرآني .

يقول القرآن عن قصة يونس – يونان في العهد القديم – حين ركب السفينة : ( فساهم فكان من المدحضين ) ما قصة تلك القرعة ؟ صمت القرآن لأن التفصيل في الكتاب المقدس .

لا يذكر القرآن عن قصة أيوب إلا نهايتها ، أين تلك القصة الطويلة ؟ هناك في سفر أيوب في العهد القديم .

لو استعرضنا الموضوع فإنه يطول وهو جدير ببحث يخدم التعايش السلمي بين أبناء العمومة أحفاد إبراهيم عليه السلام ، وإنما غرضي لفت الانتباه إلى هذه الظاهرة التي لا تنكر .

تساءلت : لم يفعل الله ذلك ؟

لم كان هناك نقص في قصص القرآن تُكمله التوراة والإنجيل – أو العكس - ليس الله عاجزا عن إتمامه في كتاب واحد ؟
لا أفهم من هذا إلا أن الله يريدنا أن ننفتح على بعضنا البعض ، فكما أن الكتب المقدسة الثلاثة لا تكتمل إلا ببعضها فكذلك نحن البشر وخاصة أبناء النبي إبراهيم .

بل إني لأجد ريح الرحمة الإلهية في طريقة الوحي هذه .. إذ ينزل الله كتابه الأخير لكن دون إجحاف للكتابين اللذين قبله ليشعر أهلهم أن لا زال لكم وجاهة وخير ، وليخبرهم بأن هذا الكتاب أي القرآن امتداد لكتبكم فهلا أقبلتم ؟

وأيضا أفهم هذه الطريقة كخطة إلهية لحمايتنا من قذارة الطائفية ، تجبرنا على أخذ الحق أيا كان منبعه ، وبالتالي تمنحنا قدرة على انفتاح الفكر ، ومن يقدر على الانفتاح على الأديان فهو لمذاهب دينه منفتح أكثر ، والانفتاح الفكري مقبرة الطائفية .

هذا الطرح موجز وحقه التطويل
لكن لا أجد ختاما أفضل من التذكير أن الله هو تعمد تعدد الشرائع اختبارا لنا ، وبنفس الوقت لم يتركنا دون حل أو توجيه ، وما ذكر في هذه السطور عسى أن يكون منها .

قال تعالى :
( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ، فاستبقوا الخيرا ت ، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )

دمتم بانفتاح وتعايش سلمي
محمد الفودري