الاثنين، 8 مايو 2017

جواز الترحم على غير المسلم


هذا موجز لبعض أسس جواز الاستغفار لغير المسلم عموما، بنيته على ثلاث:
1- استغفار الملائكة لمن في الأرض
2- دعاء الأنبياء
3- الاستغفار للمنافقين 

والاستغفار ابن للرحمة، فإن أثبت نفسه أثبت أباه الأكبر منه

(قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا)

يحزنني أن أجد ديني الذي جاء رحمة للعالمين يحوله بعض منتميه إلى لعنة لسواهم جاعلين رحمة الرحيم شركة خاصة ذات مسؤولية محدودة! وما تجريم الترحم على غير المسلم من ضحايا ومشاهير وأبناء الوطن وذوي القربى سوى نموذج لتقليص الرحمة، لذا أردت بيان جانب الرحمانية في هذه المسألة علّ أصوات اللعنة تهدأ والرحمة تعود لتسود، فأقول موجزا للدلائل:

أولا: وجدنا الله جل شأنه يقول (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم)
ومن هم الذين في الأرض؟ إنهم كل الناس أيا كانوا بدين أو بدونه، وهذا يعم غير المسلم قطعا، فلو كان الاستغفار لهم معصية لما فعلته الملائكة، أليست الملائكة خلقا (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)؟!

يرفض بعض المفسرين جعل الآية على عمومها قائلين بأن آية سورة غافر تخص المؤمنين فقط، ولو تأملناها لوجدنا أن الاستغفار الخاص بالمؤمنين صادر عن حملة العرش فقط دون بقية الملائكة، فهي تقول (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) فبين الآيتين اختلاف في الصياغة لا يقبل أن تقيد إحداهما الأخرى، وبمثل هذا التفسير اللغوي المؤيد للاستغفار لغير المسلم قال بعض المفسرين فليس بدعة من لوحة مفاتيحي، بل وما هو على الله بعزيز (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم).

ثانيا: الأصل الدعاء بالمغفرة للجميع، والاستثناء هم من تبين أنهم أصحاب النار فقط:

لا من بد تقويم الخطأ الشائع بقسمة الناس بحسب الإيمان قسمة ثنائية: مؤمن وكافر، بل هناك قسم محايد: كمن لا يكلف بالإيمان أصلا ومن لم تبلغه الدعوة وأصحاب الأعذار، فليس كل مسلم كافرا يا قوم
إنما الكافر هو إنسان بلغته دعوة الصراط المستقيم كما يرضاها الله فجحد بها معاندا مكابرا ليجازى بجحوده النار وبئس المصير،ونصوص القرآن جلية في انتفاء العذاب عمن غفل عن الدعوة:

(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ، (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)

ولعل عموم أهل الأرض منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هم في حكم من لم تبلغه الدعوة ، وحول مصيرهم الأخروي نزاع ديني اختلف فيه المسلمون بين القول بنجاتهم أو الحكم بإسلامهم أو اختبارهم في الآخرة أو تركهم لله خالقهم.

فإن علمنا ما تقدم، لننتبه بأن ليس كل جاحد للدين يحرم الاستغفار له نصيا إلا إن علمنا بكونه من أهل جهنم، ففي سورة مريم نجد أن دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه آزر لما انتهت بجحود الآخير للرسالة برده المتكبر (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟! لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) قال له (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) وفي سورة الشعراء (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) فهو يستغفر له مقرا بضلاله وهذا قبل أن يتبين له حاله الأخروي قطعا، لكن نفهم من استغفار أبي الأنبياء أن الأصل جواز الاستغفار للمعاندين ما لم نعلم حالهم الأخري، إذ لو كان الأصل عدم جواز الاستغفار لهم مطلقا لما فعله عليه السلام.

ويؤيد الأصل أيضا دعاءه في سورة إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) والآية في سياق الأصنام!
ويؤيد الأصل أيضا دعاء عيسى ابن مريم في آخر سورة المائدة (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) والآية في سياق من اتخذه وأمه إلهين!

لننتبه متى توقف إبراهيم عن الاستغفار لأبيه ولأي علة منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الاستغفار للمشركين، القرآن يجيب وبتعليل ظاهر:
(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)
إذن لم يتوقف الأنبياء ولا المسلمون عن الاستغفار إلا بعد بيان الوحي لهم بأن من تستغفرون لهم من أهل النار والعداوة لله، والسؤال الذي نحتاجه نحن المعاصرين: كيف لنا أن نعلم أن معاصري أهل الأرض من أهل جهنم أو الجنة ؟ ما من سبيل للجواب وقد انتهت النبوات.

فما دام الاطلاع على الغيب قد انتهى فلا يحل لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يدخل أحدا من البشر جنة ولا نارا بهواه، وما دام الاطلاع على أهل الجحيم قد توقف فتوقفوا عن تحريم الاستغفار لبشر لا تدرون حالهم وإلا صرتم أربابا من دون الله يا فضلاء! فكل تحريم للاستغفار لشخص أو فئة بعينها دون وحي تدخل في سلطة إلهية ممنوع شرعا وعقلا.

وما على المانعين للاستغفار حرج لو قالوا بالكراهة بناء على دلالات نصوصهم متجنبين ضريبة التحريم، فنصوص الشريعة القطعية الصريحة المحرمة للاستغفار هي لمن علمنا جهنميته دون غيره، فليحتط المرء فيما سوى ذلك.

ثالثا: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين:

المنافقون بنظر الإسلام أشد الناس عذابا بدليل قوله تعالى (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) ومع ذلك وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم مصرا على الاستغفار لهم!

لما نزل قوله تعالى :( استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) لم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يتطرف للرحمة ليقول “إنما خيرني الله وسأزيده على سبعين” ويروى “قد خيرني ربي فوالله لأزيدن على السبعين” “فأنا أستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين”! معاشر المفتين (لقد لكم في رسول الله أسوة حسنة) في تتبع مظان المغفرة ولو ضاقت أو عدمت فلا تحجبوا شمس رحمته.

والاعتراض بأن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار للمنافقين منسوخ بسورة المنافقون ضعيف ترفضه اللغة، فآية سورة المنافقون تقول (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) فالسياق يفيد التسوية بين الاستغفار وعدمه فيقتضي الإباحة والتخيير لا النهي، ونحوه ( إن الذي كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم تنذرهم لا يؤمنون) لا يمنع إنذار الكفار رغم اليأس من النتيجة
فكذلك هنا لا يمنع الاستغفار رغم اليأس من النتيجة .


إذن يبقي التخيير على أصله...
فأقل ما يقال في غير المسلم الذي لا نعرف حاله -وهو قطعا أهون من المنافق- هو التخيير فيه بين الاستغفار وعدمه دون طغيان المنع من باب أولى.


والغريب أن البعض يعلل استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين بأن ذلك كان لاستمالة قلوبهم ولو كانوا غير مستحقين للرحمة، والسؤال: ألسنا معشر المسلمين اليوم أحوج إلى استمالة العالم بهذا الخطاب الرحماني أيضا؟!

ختامية:

1- أدرك وجود النقاش في فروع الاستدلالات كما أدرك أن الأهم هو معدن القارئ نفسه والسياق الأخلاقي الذي تستخدم فيه أيضا، فحين تتداخل تيارات الأدلة ووجهات النظر لن يؤازر العقل إلا ما يهواه قلب المرء وطبعه، وحسبي أن الإيجاز قصدي .

2- من أراد نقض الموضوع فعليه بدليل مساوٍ يمنع الاستغفار خارج محل النزاع، إذ لا نزاع في حرمة الترحم على من علمنا جهنمتيه، أما النزاع الحقيقي فهو فيمن لم نعلم مصيره جاحدا كان أو غير جاحد، وقد ذكرت أوجها قرآنية تُفهم جواز الاستغفار لهم، فهل من معارض قطعي؟ 

3- تثبت صحة ما تقدم جواز التعزية بمثل عباراتنا معاشر المسلمين لغيرنا بدلا من تلك التعزيات الجافة التي يذكرها البعض لتعزية غير المسلمين، وربما أثارت الضغينة بدلا من التعزية!

فلأترك الكتابة الآن حتى لا يصاب المقال بالتخمة :)

هذا ما ارتأيت ومني الزلل، والله أعلم ومنه الصواب
وكتبه

محمد الفودري