الأحد، 26 أغسطس 2012

مهزلة قتل غيلان وعدالة الأوزاعي في الميزان ( قصة وواقع )


مهزلة[1] قتل غيلان ... وعدالة الأوزاعي في الميزان

 لوحة غيلان الدمشقي تضامنًا مع الثورة - “خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا” الرسامة ريم علي

يقول أحكم الحاكمين في كتابه المحكم : ( وما كنت متخذ المضلين عضدا )

إن غياب العقل والإنصاف والتجرد من أهم أسباب رعاية الجهل وتأصيله وجمود العلوم وعدم تطورها ولهذا أثره على أصحاب تلك العلوم ومدارسهم ...

هذا الموضوع هو دعوة مبرهنة كغيره من الدعوات التي سبقته لإزالة الجمود عن علم الحديث الذي يدعي البعض أنه من العلوم المحترقة ولا مجال للتجديد فيها ، ولكنه لما كان علما مختصا بأصل عظيم من أصول الإسلام وهو السنة النبوية كان لزاما إعادة النظر فيه دون إلغاء للعقل واكتفاء بالتبعية دون تمحيص لبعض بشر ليس لهم أي عصمة ، وكإثبات أيضا أن هذا التراث الإسلامي - الذي يعبده البعض رافضا اجتهاد المعاصرين - يؤخذ منه ويترك ويحتوي على الغث والسمين لأنه نتاج بشر غير مستقل عن جانب البشرية المظلم ، وأيضا انتصارا لذلك الحر الأبي الذ قتل بسبب مطالبه العادلة وشجاعته ورأيه وإعماله لعقله ، وللتوضيح للناس إحدى نتائج تعاون " وعاظ السلاطين " مع حكومات القمع ، وأن استخدام الدين في سياسة الناس سلاح ذو حدين : إما تحرير الناس أو تعبيدهم ، التاريخ يكرر نفسه لكن من الذي يتعلم منه

يقولون : أن الحق ما قالت الأعداء ، وأن شهادة الخصوم على خصومهم من أوهن الشهادات وشهادتهم لهم من أقواها ، وأن إقرار المرء على نفسه سيد الأدلة ، وعلى هذا سار البحث .

# ترجمة الأوزاعي وغيلان الدمشقي :

1- الأوزاعي:
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ( 88 - 175هـ ) على اختلاف في سنة وفاته .
يذكر أنه من فقهاء أهل الشام وقراءها وزهادها ، وأقوال المترجمين له كلها حسنة لا تكاد تجد فيها أحدا يذمه بل الكثير من المدح والتوقير له والإعلاء من شأنه كأحسن ما تقرأ من ترجمة ، عامة أهل الحديث على توثيقه [2]، وهو من رجال الصحيحين .
اختلف فيه رأي أحمد بن حنبل : فمرة قال عنه : ضعيف[3]، ومرة قال عنه : من الأئمة [4].

2- غيلان [5]:
هو أبو مروان غيلان بن أبي غيلان مسلم مولى عثمان بن عفان القرشي ، اشتهر بغيلان الدمشقي ، وينعته خصومه بالقدري نسبة إلى القدر .
لا تجد في تراجم المحدثين له إلا ذما وأنه ضال مسكين  ، وذلك لقوله بالقدر عندهم .
ومع ذلك ذكر أن الخليفة عمر بن عبد العزيز قال عنه : من سره أن ينظر إلى رجل وهب نفسه لله ، ليس فيه عضو إلا ينطق بحكمة فلينظر إلى هذا [6].
ولا تختلف المصادر باختلاف توجهاتها على أن عمر بن عبدالعزيز قد عين غيلان الدمشقي في بعض المناصب ، ولكن تختلف في توجيه سبب هذه التولية .

# قصة الأوزاعي مع غيلان الدمشقي :

قبل بدء ذكر القصة الأليمة والشهيرة فلا بد من إعطاء تصور للقارئ عنها :

غيلان الدمشقي كان واليا على رد المظالم في خلافة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز ، قال له الخليفة : " يا أبا مروان ، أعني أعانك الله " .
فقال غيلان : " ولني رد المظالم " .
 فولاه ، فكان يخرج خزائن بني أمية فينادي عليها : " هلموا إلى متاع الخونة " .
ونادى على جوارب خز قد تآكلت بلغت قيمتها ثلاثين ألفاً ، فقال : " من عذيري ممن يزعم أن هؤلاء أئمة عدل ؟ قد تآكلت هذه الجوارب في خزائنهم ، والفقراء والمساكين يموتون جوعاً " .
فلما ولي هشام - بعد وفاة عمر - بعث إليه واستنطقه فقال : " أعوذ بجلال الله أن يأتمن الله خواناً أو يستخلف خزاناً ؛ إن أئمته القوامون بأحكامه ، الراهبون لمقامه ؛ لا يول الله وثاباً على الفجور ، ولا شراباً للخمور ، ولا ركاباً للمحظور "[7].

هنا يمكن القول أن بقاء غيلان صار أمرا لا يطيقه هشام فلذلك لجأ إلى الأوزاعي قائلا : " خاطبه وناظره وحاججه فوالله لئن ظفرت به لأقتلنه "

ولنرى إلى هذه المحاججة الهزلية التي خسرت بها الأمة أحد أحرارها ولننتبه أن حكاية القصة هي كلها من كتب المحسوبين خصوما لغيلان :

قال  الأوزاعي لغيلان : " تسألني أو أسألك ؟ "
 فقال له غيلان : " سلني ولا تكثره "
فقال الأوزاعي : " اختر إن شئت ثلاث كلمات و إن شئت أربع كلمات و إن شئت واحدة ". فقال غيلان : " بل ثلاث كلمات ".
فقال الأوزاعي : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل قضى على مانهى؟
فقال غيلان : ليس عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه واحدة. ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ أحال دون ماأمر؟
فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى ، ما عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه اثنتان يا أمير الموٌمنين ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل أعان على ما حرّم؟
فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى و الثانية ، ما عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي:هذه ثلاث كلمات .
فأمر هشام فضربت عنقه.

 ثمّ إنّ هشاماً طلب من الأوزاعيّ أن يفسّر له هذه الكلمات الثلاث. فقال الأوزاعي: أمّا الأوّل فإنّ الله تعالى قضى على ما نهى ، نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثمّ قضى عليه بأكلها. أمّا الثاني فإنّ الله تعالى حال دون ما أمر ، أمرإبليس بالسجود لآدم ثمّ حال بينه و بين السجود ، و أمّا الثالث ، فإنّ الله تعالى أعان على ما حرّم ، حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير ، ثمّ أعان عليها بالاضطرار .
قال هشام : والرابعة ما هي يا أبا عمرو ؟ قال : كنت أقول : مشيئتك مع الله أم دون الله ؟ فإن قال : مع الله فقد اتخذ مع الله شريكا ، أو قال : دون الله فقد انفرد بالربوبية ، فأيهما أجابني فقد حل ضرب عنقه بها ، قال هشام : حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء.

وهكذا قتل غيلان الدمشقي !!!

قتل بسبب أنه لم يجب على أسئلة معقدة يكون كافرا إن لم يجب عليها بل وحتى لو أجاب بأي احتمال فإنه يكفر بها !!!
يتبجح الأوزاعي : " فأيهما أجابني فقد حل ضرب عنقه بها " !! والأدهى والأمر أن هشاما " ولي أمر الأوزاعي " حاله كحال غيلان تماما يجهل الإجابات التي يجوز بها ضرب الأعناق ، ولكن يصمت الأوزاعي صمتا عن ولي أمره وحاله كحال غيلان تماما !!

بمثل منطق الأوزاعي أضمن أني أستطيع أن أقطع رقاب الأمة كلها ، حتى ألئك الذين ينتمون لنفس فكر الأوزاعي بل حتى الأوزاعي نفسه !!

أبهذا تستحل الدماء ويقتل الأحرار ؟!

أنقل بقية المشهد - على خلاف في صحته - ماذا حصل بعد المحاججة الهزيلة وقت تنفيذ حكم الجائر في حق غيلان كما كتبه محمد الكوخي بتعليقاته :

" المهم أن الخليفة حصل على ما يريد فأمر بصلب غيلان يعد قطع يديه ورجليه وتعليقه بباب كيسان بدمشق. فتوجه غيلان إلى الناس قائلا : " قاتلهم الله ( يقصد الأمويين). كم من حق أماتوه ( الحرية, العدالة...) وكم من باطل أحيوه ( أيديولوجيا القدر...) وكم من ذليل في الدين أعزوه ( من أمثال ابن أبي سرح...) وكم من عزيز في الدين أذلوه ( وعلى راسهم الحسين بن علي الذي قتل في كربلاء...). فغضب الأمويون الذين سمعوا هذا الكلام من غيلان وذهبوا إلى هشام يقولون له: قطعت يديه ورجليه وأطلقت لسانه ( وهل هناك ما هو أهم عند المفكر من لسانه؟). إنه أبكى الناس ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين. فأرسل إليه من قطع لسانه... "[8].

# التهم التي قتل بسببها غيلان وتحقيق القول فيها :

بحسب مراجعة المصادر التاريخية فإنه يمكن إيجاز التهم التي قتل بسببها غيلان إلى تهمتين كلاهما لا يصلح سببا للقتل أبدا  :

التهمة الأولى : وهي الواضحة من القصة وهي قضية القضاء والقدر ومسألة الخير والشر :

المتأمل لمذهب المعتزلة أو " أهل العدل والتوحيد " كما يلقبون أنفسهم ، وهو نفس المذهب الذي يتبنى رأي غيلان الدمشقي في القدر يجد أنه لا ذنب لهذا الفكر الحر سوى أنه رفض أن تنسب الشرور التي نفلعها نحن البشر إلى الله تعالى ويرفض رفضا تاما المنطق المتهافت الذي يؤصل باسم الدين أن جميع الشرور من قتل واغتصاب ودمار وآلام مصدرها هو الله ( قل هو من عند أنفسكم ) .

إن نظرة المعتزلة إلى القدر نظرة عميقة تؤمن إيمانا تاما أن الإنسان هو المسؤول عن أفعاله وأنها تنسب إليه حقيقة لا مجازا وأن الله سبحانه أعظم وأجل من أن يجبرنا على الأفعال التي نفعلها ثم يلقينا بالنار بناء على جبره لنا ، ويؤصلون لهذه الفكرة المنطقية الواضحة بأدلة نصية شرعية من القرآن والسنة ويؤمنون إيمانا تاما بالعدالة الإلهية التي يرفضها كثيرون من مخالفيهم ، فلم يكن هذا الفكر ابتداعا اختلقوه من أنفسهم بل هو فهمهم لدينهم بطرق شرعية منطقية لا غبار عليها ، ولكن ... ؟
رغم بساطة هذا الفكر ووضوحه فهو يحارب بشدة لأن المتأمل في الموضوع يجد أن بداية استغلال مسألة القدر والفكر الجبري لإخضاع الناس للحاكم الظالم تنسب إلى بداية العهد الأموي .
ولا يخفى أن الفكر الذي كان في الجاهلية قبل الإسلام فكرا جبريا محضا اعتادته العرب فيبدو أن مستغل قضية القدر قد استفاد من هذه النقطة قبل أن تموت .
وأيضا لو نجح الحاكم الظالم المستبد من  خلال أوراق سلطته الدينية التي يخضع بها الناس له في إقناعهم بأن مصدر الشرور وأن ما بهم من مصائب هو قضاء وقدر وشيء يستحقونه فإنه بذلك سيضمن قبول الناس لتناقضاته لأنهم آمنوا برب شرير ورحيم في نفس الوقت فمن باب أولى أن يتقبلوا وجود من هو دون الإله كذلك متناقضا . ( لنتأمل في واقع بعض الشعوب قليلا )

بالمناسبة :  تجد في أفكار بعض مخالفي فكر المعتزلة في هذه القضية أن الله يحق له إدخال النبي صلى الله عليه وسلم جهنما وإدخال فرعون وأبي لهب للجنة ولا يكون هذا ظلما !! تعالى الله الحكيم الذي حرم الظلم على نفسه والعبث عن ذلك علوا كبيرا .

وأعتذر عن الإطالة السابقة رغم إيجازها وأهميتها ، والمهم أن هذه تهمة لن تقبل الشريعة بقتل صاحبها أبدا .

التهمة الثانية وهي الأهم والسبب الرئيسي : أن غيلان الدمشقي يرفض الحكم الوراثي ويؤمن إيمانا تاما بأن الأمة هي من يحق لها اختيار الخليفة والحاكم لا أن يفرض عليها فرضا :

انتشرت قديما أحاديث الله أعلم بمن روجها مفادها أنه لا يحق أن يحكم المسلمين أي شخص غير قرشي ، وبغض النظر عن الخلاف في هذه المسألة التي توجد في نصوص الشريعة ما يصادمها ويرفضها بل ليت شعري كيف غابت هذه النصوص المتواترة عن الصحابة رضوان الله عليهم في قضية اختيار الخليفة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

المهم أن غيلان الدمشقي كان من الرافضين لهذه الفكرة ورأيه باختصار :
أن الإمامة " تصلح لغير قريش. وكل من كان قائما بكتاب الله والسنة كان مستحقا لها. وهي لا تثبت إلا بإجماع الأمة "[9].
إنه رأي حر أصيل يرفض الاستبداد والدكتاتورية ويدافع عن حق الأمة والشعوب في اختيار ممثليها ، وهذه الرأي يهدد استمرار الحكم الوراثي الذي قامت عليه الدولة الأموية .
لذلك فإن كان هناك من سبب يدعو السلطة الأموية في ذلك الوقت لقتل غيلان فهذا أهمها حتما .

# وبهذا يتضح أن سبب قتله هو سياسي لكنه تم تحت غطاء ديني متوهم تبرأ منه الشريعة تماما !!

# ردة فعل سلبية اتجاه مقتل غيلان :

( ... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )

للأسف الشديد وكعادة الاستبداد المبرر من قبل وعاظ السلاطين ، بعد قتل الخليفة هشام لغيلان الدمشقي كأنه شعر ببعض الندم لقتله هذا الحر وأن في قتله ريبا وعجلة ، فهل نصحه وعاظ السلاطين بالتوبة عن فعلته أم أيدوا فعلته وبرروها ؟ من نماذج ردود الفعل والحكم للقارئ :

1- بلغ نمير بن أوس " قاضي دمشق " أنه وقر في صدر هشام بن عبدالملك من قتله غيلان شيء فكتب إليه نمير " لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن قتل غيلان من فتوح الله عز وجل العظام على هذه الأمة " !! [10].

2- عن رجاء بن حيوة أنه كتب إلى هشام بن عبد الملك : " بلغني أنك دخلك شيء من قتل غيلان ولقتل غيلان وصالح أحب الي من قتل الفين من الروم " !![11].

3- أخطر ردود الأفعال هو وضع الأحاديث واختلاقها كذبا وزورا على النبي صلى الله عليه و سلم لأجل محاولة تخفيف هذه الفضيحة بذم غيلان وأنه شر من الشيطان بل وفي ذم القدرية عموما ، من ذلك ما رواه أحد الكذابين :
" يكون في أمتي رجلان أحدهما وهب يهب الله له الحكمة والآخر غيلان فتنته على هذه الأمة أشر من فتنة الشيطان "[12].
وكذلك يجد الناظر في الكتب الكثير من أحاديث ذم ولعن القدرية ، ولكن التحقيق العلمي يقول أنه لا يصح في هذا الباب أي حديث .
فمن الذي اختلق الأحاديث ولماذا ؟

للفائدة :
قال الفيروزابادي: لا يصح فيذم المرجئة والقدرية حديث.

والقدرية لقب يطلقه خصوم المعتزلة عليهم وهم يرفضونه بل ويتسمون بأهل العدل والتوحيد والمنطق العلمي يؤيد رفضهم له فكيف ينسب المرء إلى شيء ينفيه ؟ عموما ليت الذين يتأذون من معركة الألقاب أن يهتموا لغيرهم إن كانوا لا يرضون أن يناديهم مخالفوهم بألقاب لا يحبونها ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم به .

# تواتر قصة الأوزاعي وهشام وغيلان :

يتواتر ذكر هذه القصة في الكتب سواء العقدية أو التاريخية ، ويجدها الباحث في أمهات كتب علماء أهل السنة بإقرار لها وافتخار مخجل – مع الأسف الشديد – فإنكارها من الصعوبة بمكان ، حتى لو أنكرها منكر  فماذا سيفعل مع التأصيلات و التبريرات و الترقيعات التي نتجت عنها ؟[13]
هذا أحد أهداف الموضوع

# مفهوم العدالة وحال عدالة الأوزاعي  :

من شروط صحة سند الحديث أن يكون رواته عدولا وإن سقطت العدالة عن أحد الرواة فإن الرواية عنه ليست بحجة ودين الله أجل أن يؤخذ ممن ثبت سقوط عدالته ، فما هي هذه العدالة يا ترى ؟

مفهوم العدالة مختلف فيه بين المحدثين لكن محل الاتفاق أنها وصف يدل على الصدق حتما وكذلك استقامة الإنسان دون إغراق في المعاصي وفرق بين المعاصي والكبائر ، أما الوقوع في الكبيرة فهي من مسقطات العدالة حتما دون نزاع كالقتل والزنا والسرقة ونحوها .

قال ابن حجر في تعريف العدل  :" من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة " .
وأقل مروءة وتقوى هي التورع عن دماء الناس وعدم الدخول في تصفيات سياسية قذرة .

قال الشوكاني : " بل يثبت الجرح بما يوجب سلب العدالة المعتبرة في الشهود " .
فهل تقبل شهادة متسبب بالقتل بفتواه الساذجة ؟ بل رفض أيضا أن يطبق منطقه الذي قتل به إنسانا معصوم الدم على غيره بحجة ولي الأمر طبعا !!


والله تعالى يقول : ( ممن ترضون من الشهداء )

# لماذا يغيب هذا التغاضي الواضح الصريح لمسقطات العدالة عن الأوزاعي ؟

هناك ثقافة قديمة انتشرت في بعض التيارات الدينية ولا تزال إلى اليوم وهي ثقافة تقديس الأشخاص لا شعوريا والظن بأنهم من المرضي عنهم دون شك وقطعا رغم كون ذلك أمرا غيبيا لا يطلع عليه إلا الله ، وقد تجد من يصرح بذلك بقوله أو بفعله ، وكمثال على ذلك قول ابن أبي داود في قصيدته التي تعرف بالحائية[14]:

ومالك والثوري ثم أخوهم :: أبو عمرو الأوزاعي ذاك المسبح
ومن بعدهم فالشافعي وأحمد :: إماما هدى من يتبع الحق ينصح
(( أولئك قوم قد عفا الله عنهم !!))  :: فأحببهم فإنك تفرح

فتجد أحد علماء القرن الثالث الهجري وابن أحد أبرز المحدثين يقول جازما بعفو الله عن بعض بشر أحبهم وهو أمر غيبي بحت لا مصير إلى إدراكه والأصل في الغيبيات التوقف - والمسلمون عموما محل لحسن الظن دون تعد للجزم بالعفو أو الرضا عنهم – فليس بمستغرب أن يتم رفض إعمال العقل في سبر بعض الرواة لأنه اعتقد أنهم من المعفي عنهم متآليا على الله أو لأنهم من مثل فكره ومنهجه وهو يؤمن أنه لن يدخل الجنة إلا من كان مثل فكره !!

وما الظن بتنامي هذه الثقافة اليوم لتصل إلى الجزم بربانية بعض البشر وأنهم علماء لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم رغم تناقضاتهم الصارخة ، ولا بد من التأكيد أن مثل هذا التقديس قد لا تجد من يصرح به بل تجد رفضه قولا ولكنه إن لم تظهره أقوال المتعصب أظهرته أفعاله ، إنها ثقافة خفية تحجب العقل عن بعض نواحي التفكير .
ولا يزال الإسلام يجني بعضا من أشواكها إلى اليوم من بعض المذاهب والتيارات المنتسبة إليه .

# آراء رواة الحديث ليست شرطا :

هذه المسألة مثال جميل أن آراء رواة الحديث ليست سببا رئيسا في قبول رواياتهم أو ردها وإنما العبرة بالصدق و الأمانة وملازمة التقوى والورع واجتناب الكذب والنفاق .
حاسبوا رواة الأحاديث على صدقهم لا على آراءهم ، ولا حاجة إلى تفصيل القول في هذا الموضوع لوجود تيار في علم الحديث يؤكد أن العبرة بصدق الراوي لا بمذهبه .

وبمثل قضية النظر إلى أفكار الرواة كدنا أن نخسر عدالة " محمد بن إسماعيل البخاري " كما كدنا أن نقدس عدالة الأوزاعي !

العبرة بالصدق والحكمة ضالة المؤمن أيا كان مصدرها ، مع الإقرار بأن للمسألة تفصيلات .

وإن أصررنا على أن رأي المحدث مؤثر في مسألة الحديث فجميل لكن إن التزمنا به مع كل الرواة حتى الذين ينتمون إلى مثل فكر الأوزاعي فهم لديهم جانب غلو لا ينكر في مسألة القدر فلم لا تعتبر أحاديثهم غير مقبولة في هذه القضية تمشية للقاعدة ؟

لقب المبتدع لا توجد فرقة أحق بها من الأخرى وكل يؤخذ من قوله ويترك ، ومن التفت إلى هذه الجزئية أدرك عمق رأي من يكتفي بعدالة الراوي وصدقه في المقام الأول دون أن يكون هذا الاهتمام نفسه لمعتقده ، ومن كذب في ترويج معتقده فجائز أن يكذب فيما سواه أيضا .

# الذي يسير وفق المنهج التقليدي في تتبع الرجال أمام خيارين حتى يكون صادقا مع نفسه ومحترما لعقله وقواعد العلم ، والأهم من كل ذلك هو أن المسألة تتعلق بعلم يتعامل مع أصل عظيم من أصول الإسلام وهو السنة النبوية  :

1- إما تطبيق قواعد العلم المعقولة والمنطقية بإسقاط عدالة الأوزاعي ورفض كافة مروياته المنفرد بها ، وذلك لتسببه في جريمة قتل عمد والقتل من الكبائر قطعا بل والقتل العمد وشبه العمد من المسقطات للعدالة ، ولاشتراكه في مداهنة ونفاق السلطة كما هي الروايات المثبتة وهو أحد مسقطات العدالة أيضا ، وبالتالي رفض شهادات أهل الحديث في الأوزاعي وإعادة النظر فيها بل وفي منهج الجرح والتعديل عموما وخاصة عدم الاقتصار على كلام المختصين بل لابد من تتبع سير الرواة وفق منهج جديد ودون أحكام مسبقة  .
ولا ننسى أنه قد تقدمت رواية لأحد أئمة هذا الفن و هو أحمد بن حنبل قد جرح فيها الأوزاعي ، وهذا التجريح أولى بالأخذ وما تقدم في الموضوع هو تفسيره .

2- أو الطعن بالروايات والقصة المتواترة بالكتب التي تثبت إشتراك الأوزاعي اشتراكا صريحا في القتل وأنه كان أداة للسلطة في قمع المخالفين ، وبالتالي إبطال كلام أهل السنة في هذه الجزئية في أمهات الكتب التي تدعى أنها أصول السنة وأنها تحتوي الحقيقة المطلقة ، وتحتم مراجعة خرافة ( جواز قتل المبتدع ) وليكمل من راجعها بقية الأصول – تطهيرا لعقله قبل أي شيء - كمسألة وجوب الخضوع للحكومات الظالمة ، أومسألة القدر ولينظر إليها من كتب أهلها لا كتب خصومها ليتأكد مَن مِن الفريقين أحق بالحق أو على الأقل أليس للمخالف وأدلته النقلية والعقلية أية وجاهة ؟ وبالتالي تصحيح النظر في الخلافات العقدية التي لا يزال البعض يستغلها في رعاية الجهل و الكراهية ، للأسف .

( الوجاهة في مسألة القدر ، أما إيجاب الخضوع للظلمة وعدم إزعاجهم فهو مرض لا يعرفه منطق إنساني أو دين سليم )
انظر ::: 

براءة الشريعة من منطق ( اسمع وأطع ولو ضرب ظهرك واغتصب أهلك ) مناقشة لمتن الحديث وسنده


في كلا الحالين لابد من ثورة علمية تجديدية .

# الخاتمة :
ظاهرة غيلان الدمشقي تكررت على مدى التاريخ والأمم ، وإلم تكن بقتل الشخص كانت بقتل كتبه بإحراقها ، أو قتل سمعته بالتشويه من خلال النفوذ الإعلامي .
ولكن وكما يروى عن المسيح عليه الصلاة والسلام :
" الحق الحق أقول لكم ، ان لم تقع حبة الحنطة في الارض و تمت فهي تبقى وحدها و لكن ان ماتت تاتي بثمر كثير "[15].
فقد أخطأ من ظن أن الفكرة تموت ، بل لا يوجد شيء يضمن بقاء الفكرة مثل اضطهاد صاحبها .
وهاهي ظاهرة معاداة العقل في أولى مراحل انحسارها والربيع العربي ألقى بظلاله على بعض تياراتها ، كما أن ظاهرة تقدير نعمة العقل وإعماله مع النقل بدأت تعود لهذه الأمة لتعلن عن قرب نهضتها مودعة حقبة من الظلام والاضطهاد بإذن الله ... وملامح نضج الخطاب الإسلامي المنشود الذي لا يزال في مرحلة النضج والتمحيص والتكوين تؤكد ذلك .

( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال )

بالمناسبة : يقولون أن الأوزاعي من رواة أحاديث قتل المرتد :)

دمتم منمنمين تحقيقا وتدقيقا
محمد الفودري

# التدوينة مسودة أولية ، لكنها صالحة للنشر على أية حال ورغم وجود بعض المآخذ ، لكن حتى لا يتأخر نشرها أكثر .



[1] المهزلة أصلها من هزل وقد أقر استحداثها مجمع اللغة العربية  .
[2] انظر بعضا من ترجماته : تهذيب التهذيب لابن حجر (6/218) ، حلية الأولياء لأبي نعيم (6/ 135) ، طبقات ابن سعد (7/488) .
[3] تهذيب التهذيب لابن حجر (6/218) .
[4] تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص 53 .
[5] الكامل في الضعفاء للجرجاني (6/9) ، الضعفاء الكبير للعقيلي (3/436) ميزان الاعتدال للذهبي (5/408) .
[6] التذكرة الحمدونية لابن حمدون (3/193)
[7] المصدر السابق .
[8] مقالة مأساة العقل في الإسلام :غيلان الدمشقي (مؤسس الفكر الديمقراطي في التاريخ الإسلامي) لمحمد الكوخي .
[9] الملل والنحل للشهرستاني (1 /147)
[10] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (28/66) من أوسع من تطرق لهذه القضية ولكنه محسوب على أنه مخالف لغيلان وشهادات المخالفين على بعضهم الأصل ردها .
[11] لسان الميزان لابن حجر العسقلاني (3/170)
[12] الطبقات الكبرى لابن سعد (5/543) ، والحديث موضوع كذب مفترى كما أشار إلى هذا العقيلي
[13] بعض من مراجع القصة وهي كثيرة جدا : الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا ص 113 ،العقد الفريد لابن عبدربه الأندلسي (2/206) ، معجم ابن الأعرابي (4/192) ، الشريعة لمحمد بن الحسين الآجري (2/958) ، اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/719) بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (1/276) ، تاريخ مدينة لدمشق لابن عساكر (/) .
[14] قصيدة عبد الله بن سليمان الأشعث ص 19 .
[15] يوحنا 12: 24 .

الأحد، 19 أغسطس 2012

مسألة صيام ستة أيام بعد رمضان ، هل هي مقيدة بشوال أم غير مقيدة بزمن ؟؟ بحث فقهي موجز

ما يلي جزء من أطروحتي الماجستير أنشره تيسيرا للباحثين
لقراءة الرسالة كاملة من هنا


مسألة صيام ستة أيام بعد رمضان ، هل هي مقيدة بشوال أم غير مقيدة بزمن ؟؟ بحث فقهي موجز



لمن أراد الزبدة :

صم بعد رمضان كما تريد وقتما تريد في الأيام التي يجوز صومها طبعا ، صم ستا أو أكثر أو أقل ، فالصوم عموما كله خير وإن صمت بعد رمضان ستا فهذا خير وعسى أن يكون كأجر صوم الدهر ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ( والله يضاعف لمن يشاء ) وبالتأكيد أن تكثر من الصيام وتستغل اعتياد الجسم له فرصة ( فمن تطوع خيرا فهو خير ) ، إن أحببت احتياطا فصمت الست في شوال فلك ذلك لكن لا داعي للتشنج على من لا يتقيد بذلك ، وبإمكان القارئ مراجعة مبحث الترجيح على الأقل في آخر هذا البحث لينتبه إلى قضية ماذا لو كان عليه قضاء من رمضان هل يبدأ بالقضاء أم النفل ؟

قبل البحث :

( حول النزاع الحديثي المعاصر ) 

لما أثار الشيخ الفاضل عدنان عبد القادر هذه المسألة ظهرت تلك الضجة الكبيرة وتبينت تلك المعسكرات الدالة على الانشقاق الكبير بين الأشخاص التي تنسب إلى منهج واحد ، وصار الموضوع العلمي يتناول بالشخصنة بدلا من نقاش الفكرة و عرض الموضوع ...

يمكن القول أن الأزمة أخلاقية ومنهجية علمية قبل أن تكون مسألة خلافية بسيطة جدا قابلة للخلاف وتعدد الآراء ،،، والحديث ذو شجون والشيخ عدنان قد نبه لهذه المسألة في كتابه الذي شرح فيه وجهة نظره

بالنسبة للرأي الشخصي مما طرحه الشيخ الفاضل عدنان فبعد الاطلاع على بعض ما كتب في المسألة ( ككتاب الشيخ و كتاب الرد عليه وغير ذلك مما هو موجود في البحث ) فنعم قد نجح الشيخ في إثبات أن التقييد بشهر شوال لا يصح مرفوعا وإنما هو موقوف على أبي أيوب رضي الله عنه .

أما مسألة تضعيف حديث ثوبان ففي أول الأمر كنت لا أوافق الشيخ على تضعيفه ، لكن بعد النظر فإن ( الغشمرة ) في قضية الحكم على الأحاديث مرفوضة تماما وحسن ما فعل الشيخ ( حتى لو صح الحديث فهو لصالح الرأي القائل أنه لا خصوصية لشوال أيضا )

أمنية : ليت أن مثل هذه الصرامة في الحكم على الأحاديث تستخدم في كافة الأحاديث وخاصة السياسية وتلك الأحاديث المجنونة الغير معقولة المعنى والتي تخدم الطغاة الجبابرة حتى تطهر الشريعة منها ( وعند النظر فهي ساقطة سندا ومتنا لكن لا أدري لماذا يتساهل بعض الأفاضل مع هذه الأصنام الفكرية المنسوبة للشريعة ويتشدد فيما هو دونها ؟؟ إن يسر الله فسيضع المدون أمثلة صريحة ومدروسة أنه هناك تساهلا معيبا مخالفا للشريعة في الحكم على بعض الأحاديث وبعض رجال الحديث الذين ظهرت منهم هذه الآفات الفكرية ولكن قاتل الله التقديس وإلغاء العقل  وعبادة التراث !! )

كل الشكر و التقدير لمن أمد المدون بكتاب الشيخ عدنان و كتاب الرد عليه للشيخ محمد العتيبي ، ولد الحجية الفاضل عبد العزيز السلطان وهذا البحث الذي ساهم فيه من خلال التزويد بالكتب وعناء تسليمها هو إهداء له ^__^
فجزاه الله كل خير 

وهذا البحث لمن أراد تفصيلا :

# صوم ستة أيام من شوال :

شهر شوال هو الشهر العاشر من السنة الهجرية القمرية ، فهو الشهر الذي يلي شهر رمضان  وهو أول أشهر الحج[1].
وفي استحباب تخصيص شهر شوال بصيام ستة أيام بعد رمضان خلاف بين الفقهاء يأتي بيانه فيما يلي من حيث الإجمال :

تحرير النزاع :
اتفق الفقهاء على استحباب صيام ستة أيام بعد شهر رمضان ، ولكنهم اختلفوا في وقت صيام هذه الأيام الستة ، هل تكون في شهر شوال فقط أم هي مستحبة في أي وقت دون تقييد بشهر شوال ؟ والخلاف في هذه المسألة حديثي في المقام الأول ، أما الفقهاء فقد اختلفوا فيها على قولين :

القول الأول : أنه يستحب تخصيص شهر شوال بصيام الأيام الستة بعد رمضان ، وهو قول الجمهور ، فهو قول الشافعية والحانبلة ، وأحد القولين عند الحنفية والمالكية[2].

القول الثاني : أنه يستحب صيام الأيام الستة بعد رمضان دون تقييد بزمن سواء بشهر شوال أو غيره ، وهو قول أبي حنيفة [3] وأبي يوسف ، ومالك ومن وافقهم[4]، وقد كرهوا تخصيصها بشوال من حيث الإجمال .

أدلة القول الأول :
استدل أصحاب القول الاول بأدلة من السنة والمعقول :

فمن السنة :

- عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر "[5].
وجه الاستدلال :
أن الحديث صريح في تخصيص صيام الأيام الستة بشهر شوال ، وهذا الحديث هو العمدة في التخصيص بشوال[6].
اعترض عليه من وجهين :
الأول : أن الحديث لا يثبت مرفوعا ، بل هو موقوف على أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه[7].
فعلى هذا فإن الاستدلال بهذا الأثر إنما هو من قبيل الاستدلال بقول الصحابي ، وقد تقدم أن قول الصحابي لذاته إنما هو مظنة للحجة و ليس حجة ، وتقدم أن احتمالية التوقيف تكون قوية في أمور المقدرات ، إلا أن التقدير والتقييد بشهر شوال هنا معارض بحديث النبي صلى الله عليه و سلم الذي فيه إطلاق صوم الأيام الستة وعدم تقييده له كما سيأتي ، فتكون هنا احتمالية أخرى وهي أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه إنما قال ذلك عن اجتهاد منه ، وقد تقدم الحديث عنه .
الثاني : على فرض صحة رفعه ، فإنه لا يقصد من الحديث تخصيص حكمها بشوال ، وإنما عين شهر شوال تخفيفا على المكلف لأنه اعتاد الصيام في رمضان فيسهل عليه الصوم في شهر شوال[8]، وعند القول بوقف الحديث فإنه يحتمل أن يكون اجتهاد أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - بذكر شوال صادرا لمثل المعنى السابق .
أجيب عن الوجه الثاني من الاعتراض :
أن ظاهر الحديث يفيد أن فضيلة صيام الأيام الستة لا تحصل إلا في شهر شوال[9].

ومن المعقول :
- أن جعل الصوم للأيام الستة في شهر شوال وتعجيلها بعد يوم عيد الفطر هو من باب المسارعة في الخيرات[10].
يعترض عليه :
أن هذا لا يلزم منه تخصيصها في شهر شوال .

أدلة القول الثاني :
استدل أصحاب القول الثاني بأدلة من القرآن والسنة :

فمن القرآن الكريم :

- قوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها )[11].
وجه الاستدلال :
أن تحديد الصيام بعد رمضان بستة أيام مستفاد من هذه الآية لذا كانت الأيام الستة تعدل شهرين إذ اليوم له أجر عشرة أيام ، فإن أضيفت إلى شهر رمضان كان ذلك تمام السنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم ذلك من خلال معنى الآية السابقة –  وسيأتي الحديث – فإن كانت استفادة تحديد صوم الأيام الستة بعد رمضان من خلال ما سبق فهذا يفيد أنه يمكن تحقق ذلك في أي زمان بعد رمضان سواء في شوال أو في غيره[12].
و مما ورد في هذا المعنى أيضا في الصيام ويؤكده ، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث القدسي : " الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها "[13].
اعترض عليه :
أنه يحتمل أن صيام الستة أيام في شوال يختلف عن غيرها ولها مزية ، فهي تلحق رمضان في الفضل ، فيكون أجر صيامها مع شهر رمضان هو كصيام الدهر فرضا[14].
يجاب عنه :
أن مثل هذا التوجيه مما لا يثبت بالرأي ، فهو بحاجة إلى مستند نصي يقره ، فيبقى مبدأ أن الحسنة بعشر أمثالها وأن اليوم بعشرة أيام هو التوجيه الأنسب ، وهو الذي يفسر مسألة التقدير بستة أيام مطلقة دون تخصيصها بزمن .

ومن السنة النبوية :

- عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " صيام رمضان بعشرة أشهر ، و صيام الستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة " ، يعني رمضان و ستة أيام بعده[15].
وجه الاستدلال :
أن الحديث يفيد استحباب صيام ستة أيام بعد رمضان دون أن يذكر أي تقييد لها بشهر أو زمان معين ، فكانت مطلقة دون قيد ، ودل ذلك على حصول الثواب بمجرد صوم ستة أيام دون تحديد لوقتها[16].

الترجيح :
يظهر بعد النظر في المسألة و التتبع لأدلتها رجحان القول الثاني وهو استحباب صوم ستة أيام بعد رمضان دون تقييد لها بزمن معين .
وسبب الخلاف في هذه المسألة يدور حول مسألة رفع حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أو وقفه ، فلما كان وقفه هو الأظهر ضعفت دلالة الأثر على التقدير والتخصيص لصيام الست بشهر شوال ، لا سيما وأن الأثر الذي صح مرفوعا ليس فيه أي تخصيص بزمن .
وللخلاف في هذه المسألة أكثر من ثمرة ، فالقول بأن صيام الست بعد رمضان مطلق فيه نفي للحرج لمن لا يقدر على تعجيلها في شهر شوال ويظل الاستحباب قائما في حقه و لو خرج شوال ، كما أن فيه توسعة لمن عليه قضاء من رمضان فيقضي ما عليه أولا ثم يصوم الأيام الستة متى ما تيسر له ذلك دون تقديم للنفل على الفرض بحجة ضيق وقت النفل .
ويبقى أن لأصحاب القول الأول القائلين باختصاص شهر شوال بصيام الأيام الستة أثرا لصحابي ، وأنه أيضا من باب المسارعة في الخيرات إلا أنه لا يحسن التضييق في المسألة على المخالف فيها لما تقدم من الأدلة ، وإن اعتبر الخلاف متكافئا فإن الأخذ بالقول الأول يتعضد بأصل الخروج من الخلاف ، والله أعلى وأعلم .

دمتم منمنمين فقها وسماحة
وعيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير وعساكم من عواده وتقبل الله طاعتكم
محمد الفودري



[1] لسان العرب لابن منظور الأفريقي (11/377) ، مختار الصحاح لمحمد الرازي ص 148 ، المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية (1/501) .
[2] شرح فتح القدير لمحمد السيواسي (2/349) ، البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم الحنفي (2/278) ، التاج و الإكليل لمختصر خليل لمحمد المواق (2/415) ، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لمحمد الحطاب (2/414) ،الحاوي الكبير لعلي الماوردي (3/475) ، المجموع شرح المهذب ليحيى النووي (6/401) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/56) ، الفروع لمحمد بن مفلح (3/79) .
[3] النعمان بن ثابت بن زوطا التيمي الكوفي ، أبو حنيفة الإمام الأعظم (80-150هـ) ، انظر : تذكرة الحفاظ لمحمد الذهبي (1/168) ، البداية و النهاية لإسماعيل بن كثير (10/107) .
[4] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني (2/78) ، شرح فتح القدير لمحمد السيواسي (2/349) ، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر القرطبي (3/380) ، الذخيرة لأحمد القرافي (2/530) .
[5] رواه مسلم في صحيحه (2/822) كتاب الصيام ، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال ، رقم : 1164 .
[6] الحاوي الكبير لعلي الماوردي (3/475) ، المغني لابن قدامة المقدسي (3/56) .
[7] في الأثر نقاش حديثي يطول وخاصة أن الأثر هو من رواية مسلم كما تقدم في تخريجه ، والحكم على الأثر باعتباره موقوفا لا مرفوعا هو ما يميل إليه الباحث بعد تتبعه للمسألة والخلاف فيها ، ومن أسباب ترجيحه للوقف –  بإيجاز – هو ما يلي :
1- أن الرواية المرفوعة عن النبي صلى الله عليه و سلم مدارها على سعد بن سعيد وهو صدوق سيء الحفظ ، قد ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وابن أبي حاتم ، وذكره ابن حبان في كتابه الثقات و قال : كان يخطئ .
انظر : تهذيب الكمال في أسماء الرجال ليوسف المزي (10 /262) ، تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني ص 231 ،هل أخطأ من أخذ بقول مالك لا خصوصية لشوال في صيام الست لعدنان عبد القادر ص 53 .
2- أن رواية سعد بن سعيد بالرفع مخالفة لمن هو أوثق منه ، فقد رواه أخوه عبد ربه بن سعيد بالوقف على أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، وعبد ربه بن سعيد ثقة ، وثقه أحمد وابن معين وابن أبي حاتم والنسائي وغيرهم ، وقد ذهب إلى اختيار وقف الرواية عن سعد بن سعيد سفيان بن عيينة عندما حدث بها عن سعد بن سعيد بإسناده موقوفة على أبي أيوب الأنصاري ، قال له أبو بكر الحميدي : أو قيل له أنهم يرفعونه ؟ قال : اسكت عنه قد عرفت ذلك ، وهذا عند الحميدي في مسنده (1/188) رقم : 380 ، وقد ذكر ذلك ابن رجب الحنبلي وأضاف أن الإمام أحمد قد مال إليه ، وهذا في لطائف المعارف ص 488 .
انظر ترجمة عبد ربه بن سعيد : تهذيب الكمال في أسماء الرجال ليوسف المزي (16/476) ، تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (6/115) ، هل أخطأ من أخذ بقول مالك لا خصوصية لشوال في صيام الست لعدنان عبد القادر ص 53 .
انظر رواية عبد ربه بن سعيد بالوقف : عند النسائي في السنن الكبرى (2/163) كتاب الصيام ، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر أبي أيوب فيه ، رقم : 2865 ، وشرح مشكل الآثار لأبي جعفر الطحاوي (6/124) رقم : 124 .
3- أن الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه تخصيص صيام الستة أيام بعد رمضان بشهر معين وسيأتي ذكر حديث ، وهذا الحديث قد صححه أبو حاتم الرازي وقال عنه أحمد : ليس في أحاديث الباب أصح منه ، وتوقف فيه في رواية أخرى ، انظر : لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 492 .
انظر بعض المراجع التي تناولت هذه المسألة بالبحث الحديثي : لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص 488 ، و كتاب " هل أخطأ من أخذ بقول مالك لا خصوصية لشوال في صيام الست ؟ " لعدنان عبد القادر ، وبحث بعنوان " صيام ست من شوال ، دراسة حديثية فقهية " للدكتور محمد الزعبي ، والإجمال في الرد على من طعن في أحاديث صيام ست من شوال لمحمد العتيبي .
[8] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لمحمد الحطاب (2/414) .
[9] كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور البهوتي (2/337) .
[10] الروض المربع شرح زاد المستقنع لمنصور البهوتي (1/438) .
[11] الأنعام : 160 .
[12] صحيح ابن خزيمة لمحمد بن إسحاق (3/298) ، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لمحمد الحطاب (2/414) ، هل أخطأ من أخذ بقول مالك لا خصوصية في صيام الست لعدنان عبد القادر ص 70 .
[13] رواه البخاري في صحيحه (2/670) كتاب الصوم ، باب فضل الصوم ، رقم : 1795
[14] لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 493 ، كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور البهوتي (2/337) .
[15] رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/298) كتاب الصيام ، باب : ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أعلم أن صيام رمضان و ستة أيام من شوال يكون كصيام الدهر إذ الله عز و جل جعل الحسنة بعشر أمثالها أو يزيد إن شاء الله جل و عز ، رقم : 2115 ، والروياني في مسنده (1/412) رقم : 634 .
[16] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لمحمد الحطاب (2/414) ، الفروع لمحمد بن مفلح (3/80) ، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني (1/447) ، هل أخطأ من أخذ بقول مالك لا خصوصية لشوال بصيام الست لعدنان عبد القادر ص 70 .