الخميس، 21 يونيو 2012

الخلاف الأعلى ... من أجل ثمرة ناضجة


الخلاف الأعلى ... من أجل ثمرة ناضجة

       إن من أهم وأجمل التطورات والإضافات في كثير من المجالات العلمية هي فكرة المقارنة بين الآراء والنتائج التي تم توصل إليها بطرقها المعتبرة ، حيث إن اعتماد منهج المقارنة والسبر فيها يبرز جوانب القوة والضعف في مستندات الآراء ومبانيها ، كما أنه يفسر كيفية وأساس قيامها ووصولها إلى النتيجة التي اختارتها وسبب مغايرتها للنتائج الأخرى التي تشترك معها في تناول القضية .

ولقد كان للفقه الإسلامي حظ وافر من تطبيق منهج المقارنة والموازنة في فروعه ومسائله المتنازعة ، حتى اشتهر ككيان مستقل بذاته بالنظر والمدارسة تحت ما يسمى بعلم الخلافيات أو علم الفقه المقارن ، ذلك العلم الذي ما هو إلا محاولة للوصول إلى حكم الله - سبحانه وتعالى - في المسائل الخلافية من خلال النظر في الآراء المقترنة بالأدلة مع تمحيصها ، فتثمر بعدها مظنة إصابة الحكم الشرعي الذي يحرص على موافقته المسلم أشد الحرص إرضاء لله رب العالمين .

إذن فالتحقق من إصابة حكم الله - عز وجل – هو الثمرة التي لأجلها ازدهر شأن هذا العلم والمنهج ، وبه يتمكن الباحث أو المجتهد من استيضاح وجني أفضل الثمرات نضجا ، غير أن هناك معكرات لصفو منهج ومبدأ المقارنة والموازنة الفقهية يجب ألا يغفل عنها ، وهي من أسباب تضييع الثمرة المطلوبة ، والتي يمكن إيجازها في محورين :

المحور الأول : عدم أهلية الباحث للفقه المقارن :

ترجع أسباب عدم أهلية الباحث للفقه المقارن إلى بعض السلوكيات والثقافات التي يأباها هذا المنهج من تعصب للرأي ، وإعطاء الأحكام المسبقة ، وضيق الأفق العلمي ، وتأثر بموروثات فكرية سلبية ونحو ذلك من الأسباب التي هي تضر الباحث نفسه وتمنع عنه كثيرا من التحقيق والإنصاف ، وبالتالي فقد تتأثر نتيجة البحث الفقهي المقارن بالعوامل السابقة مما يفقد البحث ثمرته المرجوة بسبب عدم أهلية الباحث له .

المحور الثاني : التطبيق الجزئي لمنهج المقارنة :

الفقه هو نتاج جهد من إعمال الفكر في فهم الأدلة الشرعية ، وبالتالي فإن حصر المقارنة فيه أو  في نطاق الأدلة المباشرة له هو تضييق لمنهج المقارنة يتم التسليم من خلاله بمقدمات دون أن تقارن أو توزن بميزانها العلمي الصحيح .

العلوم الشرعية تتداخل فيما بينها ويحتاج كل واحد منها إلى الآخر ليحصل التكامل ، فاستنباط الفقه ومعرفة أدلته يكون من خلال علم أصول الفقه ، وحتى يتمكن الأصولي من استنباط الفقه فإنه يحتاج إلى الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية ويستنبط منهما بقية الأدلة ، وبالتالي فإنه سيحتاج أيضا إلى علم التفسير وإلى علم الحديث ودراسة الأسانيد ، فهذه كلها معطيات تساهم في تكوين الفقه ، وفي كل علم مسائله التي تحتاج إلى التحقيق والمقارنة والتدقيق والموازنة ، وعلى سبيل المثال فإن بناء حكم فقهي بالاعتماد على قول لصحابي يستوجب قبلها النظر في حجية قول الصحابي كدليل شرعي ، ويستوجب أيضا إثبات صحة نسبة هذا القول إلى الصحابي ، وإن حصل الخلاف في أي من المراحل السابقة فكيف يقتصر طالب الحقيقة على أقوال معينة دون أن يزنها بميزانها ؟! فكما أنه التزم المقارنة في الفقه كان حريا به أن يلتزمها في بقية العلوم وبقية الجزئيات الغير الفقهية المؤثرة في المسألة الفقهية المتناولة بالبحث والنظر .

إن كان البحث الفقهي المقارن أو الخلاف العالي هو سبيل لتقوية فرصة إصابة الحقيقة ، فإن الانتباه للخلاف الأعلى الذي يتناول القواعد والأصول العلمية التي نتج عنها الخلاف العالي بالمقارنة والتحقيق والموازنة هو أفضل السبل لبناء نتيجة مطمئنة ، وما الدعوة إلى الخلاف الأعلى إلا دعوة لتناول كافة الجزئيات العلمية المختلفة المتنازعة بالسبر والمقارنة ، وما هي إلا دعوة للاستفادة من كافة العلوم الشرعية وإشراكها في النظر الفقهي المقارن ، من أجل ثمرة ناضجة .

وكإيجاز وذكر مباشر للمعاني التي تدور حولها المقالة :

1- يجب توسيع دائرة المقارنة للمسائل الفقهية ويكون الاعتبار فيها بكل قول له دليل دون اقتصار على المذاهب الأربعة أو آراء المتقدمين ، فإصابة الحق ومظنة الصواب ليست حكرا على أحد .

2- يجب أيضا أن يتم تناول الأصول الخلافية للمسائل الفقهية بالبحث المقارن أيضا ودون حصر للمقارنة أيضا كما سبق ، فإن تمت تسوية الخلاف في الأصل حينها يمكن العودة للمسألة الفقهية والنظر فيها بعد التحقق من الأصل الذي يدور حوله الخلاف .

3- وفي كل المرحلتين السابقتين إن كان في المسألة أي استدلال بالآثار المنقولة فإنه يجب تمحيص أسانيدها دون اكتفاء بآراء من تناولها سابقا فعلى الأقل يجب الاطمئنان إلى الحكم عليها بناء عن دراية ودراسة لا مجرد تقليد ومتابعة ، فإن كان ثمة خلاف أيضا في الحكم الحديثي فإنه تتحتم المقارنة بين الآراء وسبر أدلتها أيضا .

وجميع هذه المراحل لا شك أنها متعبة وشاقة وتستهلك وقتا ولكن إن كانت النتيجة المرجوة هي ثمرة ناضجة فإنه تستحق هذا العناء ولها لذة تغفر لكل تعب صاحبها ، ألا يستحق الوصول إلى الحقيقة هذا التعب ؟؟


ختاما
كم جميل أن يكون منهج المقارنة دون حكر منهج حياة 

دمتم منمنمين بالسعادة
محمد الفودري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق