الأحد، 17 يونيو 2012

دواخانة ... قصة قصيرة


قبل عدة أشهر شاركت بهذه القصة القصيرة في مسابقة الجليس للقصة القصيرة ، ومرت الأشهر ويبدو أن الطيور قد طارت بأرزاقها ، فعلى الأقل أنشرها هنا  في المدونة ...

لا أحب أن أحرق محتوى القصة وما الذي تتحدث عنه وليكن الحكم إلى القارئ ، ولكن يمكن القول أنها محاولة لعلاج ظاهرة خطيرة لا بد من مكافحتها حتى لا تغرق السفينة ، ولا أستغني عن أي توجيه وإرشاد أو نقاش وخاصة المحتوى الفكري ...

كتابة القصة تجربة جميلة ولها لذة تتفوق على القراءة ، إنك أنت من يصنع عالمك الخاص وتعيشه ، قم بتجربة هذا العالم لعلك تدرك لذة كنت تريدها ..

قراءة ممتعة ودمتم منمنمين بالسعادة والإفادة 

محمد الفودري



القصة القصيرة :


دواخانة

مسرح

في ذلك المسرح النائي بعيدا عن ضوضاء المدينة ، وقف عريف الحفل في وسط المنصة الخشبية المحاطة بستائر حمراء مغبرة ليعلن عن انتهاء فعاليات أسبوع " دعوة للتقارب " ليختتم حديثه بعدما تم توزيع التذكارات وتبادل الهدايا الرمزية بين أبرز المدعوين والمشاركين بكلامه الإنشائي :
" ... وفي ختام هذه الأمسية التي بها انتهى أسبوعنا الحافل بالدعوة إلى التقارب بين فئات وطننا الحبيب ، فإنه لا بد من التذكير أنه لا تقارب إلا بإلغاء ما سوى الوطن من النفوس فلأجلك يا وطن أنكرك يا ذات ، والسلام أجمل ختام ، وحياكم الله على العشاء أيها الأحبة "
عم التصفيق أرجاء المسرح رغم قلة امتلاء تلك الكراسي البيضاء بالحضور الذين قاموا بالانصراف سريعا إلى قاعة العشاء بينما ظل فريد جالسا على كرسيه في آخر القاعة يتأمل الرسوم التي زينت جدرانها اليمنى بفلكلور بحري وآخر صحراوي عن يساره بينما علت المسرح القديم نقوش تكررت فيها ألوان علم بلاده متذكرا أحداث الأسبوع ومتحدثا مع نفسه :
" آه ... أسبوع كامل من تناول المشكلة دون طرح لعلاجها بكل واقعية ، ومن ثم يستغربون لم لا ينجحون في مكافحة هذه الفتنة التي لا تسعد إلا المتطرفين ؟! يا ليتهم لو ...  " قاطعه صوت :
- فريدان ، دائما سرحان .
التفت فريد خلفه مبتسما لأنه يدرك أن صاحب هذه العبارة صديقه حمد ، فعدل من جلسته وقال : " ما بك أيها الطويل ؟ كأنك قد خرجت أثناء المحاضرات ؟ "
- " اسكت يا فريد ، فقد سمعت ما كدر خاطري كثيرا فلم أتحمل سماع المزيد لذا خرجت أوسع صدري بعد ضيقته "
= " وما حل بك يا حمد ؟ اجلس قليلا وأخبرني بالذي ألم بك من هم ؟ " ، سحب كرسيا من أمام فريد وجعله مقابلا له ملقيا عليه ثقله قائلا : " إيه ... أتصدق ؟ بدأت أقتنع بالكلام الذي دار بينك وبين مدير الملتقى البارحة "
= تقصد عن الاكتفاء بترويج الوطنية كدواء للفتنة وإهمال دور الدين ؟
- نعم بالضبط .
= " أسعدتني بذلك ، ولكنه أمر غريب ، نادرا ما نتوافق بالآراء رغم كوننا أصدقاء ، هات الزبدة ، ما الذي حصل ؟ " أخذ حمد نفسا عميقا وصمت برهة قبل الحديث ثم قال : " في محاضرات اليوم سمعت ما يكدر الخاطر وينذر بالمكروه – لا سمح الله به – عندما تكلم المحاضر الأول وأظنك قد سمعت حديثه الجميل الإنساني ، سرحت قليلا عن المتابعة وانتبهت لحديث ثلاثة يجلسون أمامي من مثل فئتنا يتخافتون بينهم بحديث استغربته منهم :
قال أحدهم : متى ينتهي هذا المنافق المتملق من الحديث ؟
الثاني : أنا مثلك أيضا مللت من سماع ممثل فئة الدخلاء على أرضنا .
الثالث : لا عليكما منه الجميع يعلم أنه ممثل بارع ويعرفون بواطنه الفاجرة .
الأول : صدقت بل كل من هو من نفس فئته كذلك ،إنهم عار على الدين يا لهم من أوغاد .
ثم شغلت عنهم مذهولا مما سمعته ، ولم أفق إلا على مجيء دور المحاضر الثاني وقبل أن يتحدث سمعت همسات دارت بين اثنتين من الحضور جالستين خلفي :
الأولى : زوجي كرهني في هذا الرجل ، تخيلي أنه يظهر بمظهر صاحب الطرح المعتدل العقلاني بينما هو يحذر الناس منا ويأمرهم بإظهار الغلظة تجاهنا حتى نشعر بالضيق والحرج ومن ثم نصير إلى ملتهم تركا لهذا الحرج !! أرأيت منطق المعتدلين من ملتهم ؟!
الثانية : وما حاجتنا إليهم ، اتركيهم ، سيأتي اليوم الذي سيذهب الله غيظ قلوبنا منهم .
لم تتحمل أذناي أكثر من ذلك ، فتركت القاعة ولم أعد إليها إلا على موعد الفقرة المسرحية " أيام محن ومنح " والتي كنت مستمتعا بها حتى شغلتني عن همي ، ولكن مشكلتي أني عدت إلى نفس مكاني السابق ويا ليتني لم أعد ، فبمجرد أن انتهى العرض الشيق حتى سمعت من أمامي ومن خلفي تعليقات على العرض تكاد أن تكون محل اتفاق بين من لا يرجى لهم الوفاق ، تخيل أن أحدهم وصف العرض الوطني المؤثر بعديم القيمة وأنه لا يطعم خبزا ! وآخر وصف العدو المحتل السفاح بالبطل لا حبا فيه بل لمجازره مع الطرف الآخر ! وآخر قال أن الملة المعينة ستباد وستطهر الأرض منهم لتبقى صافية لنا !! وآخر ... "
= " يكفي يا حمد ، أظنك في حالة صدمة كما صدمت أنا من قبل ، وما أهمك هو ما أهمني تماما ، وأظن أني أعرف بقية ما قالوه فالمتطرفون ملة واحدة تختلف في الأسماء وتتفق في نبذ المخالف "
- لم أكن أعلم أن العداوة بينهم كبيرة إلى هذه الدرجة ! لماذا لا يحبون أطروحات الوحدة الوطنية وبينما هم يدعونها ويظهرونها للناس ؟ ألسنا شعبا واحدا في سفينة واحدة ؟
= مفهوم الوطنية الذي يطرح كحل لمعالجة الفتنة يستخدم استخداما خاطئا وفي غير محله ، فلا تستغرب أنهم لا يتقبلونه ، للأسف من يتصدى لهذه المشكلة يرى الحل بإلغاء ذاتهم من أجل الوطن ؟؟ غريب هذا المفهوم ما هو هذا الوطن الذي لا يحقق فيه الإنسان ذاته من أجل مشاكل غيره ؟
- هل تقصد أن طرح الوطنية لا يفيد يا فريدان ؟ أراك صرت مثلهم ..
= ليس هذا ما أعنيه يا حمدان فلها دورها في علاج أمراض أخرى وترسيخ معان جميلة في مجالات واسعة ، وإنما من السذاجة أن نستخدم الوطنية في علاج مرض هي لا تجدي معه نفعا ، ما هذا إلا كحال من يعالج الصداع من خلال قطرة العين !
- مع أن أمثلتك كعادتها خنفشارية ، ولكن المعلومة قد وصلت ، تريد أن يستخدم الدواء المناسب مع الداء المناسب ، وأظنك تراه في الدين ، هل هذا ما تصبوا إليه ؟
= نعم بالضبط ، أصبت المعنى .
- أعرف أن ديننا دين تسامح وتعايش سلمي أو قل هكذا أعرفه ، أما بعد الذي سمعته اليوم فأستغفر الله مما سأقوله ، ولكن بصراحة جميعهم ينتسبون إلى تيارات دينية ، فلست أدري بمن المشكلة ؟
= يا حمد تمسك بنظرتك الأولى ولا عليك بهم ، أتترك فكرة سامية وحقيقة غالية من أجل تطبيقيات خاطئة أو إساءات ممن يدعيها ؟ كل يدعي وصلا بليلى وهي منهم بريئة كبراءتك من فكرة الزواج على طويلة العمر .
- أعوذ بالله من أمثلتك الشريرة ، كلمني بجدية ما الحل برأيك ؟
= الكلام يطول وبصراحة إني جائع ، لنرجئ الحديث وهيا فلندرك العشاء ، يقولون أن أم علي في انتظاري ؟ إن انتهت فأنا أطالبك بتعويض معتبر .
- عيني عليك باردة ألك نفس في الطعام والتحلية بعد سماع هذه الهموم والقنابل الموقوتة ، اذهب لوحدك وأنا بنتظارك عند السيارة .
= لست أدع مشاكل غيري تفسد علي متعتي في حياتي ، على الأقل تناول بعض المرطبات .
خرج الصديقان من قاعة المسرح إلى قاعة العشاء ، فانطلق فريد مباشرة إلى الطعام بينما دخل حمد القاعة ببطء وأخذ ينظر فيمن حوله ويقول : " أما لهذه الكراهية من نهاية ؟ "

طريق

بعد أن ركبا في السيارة للعودة إلى المنزل ، دارت بينهما بعض الأحاديث الودية ، وتذكر حمد الذي كان يقود السيارة ذلك الكابوس المخيف الذي عاينه اليوم فعاد لمحاورة صاحبه :
- كفاك حديثا عن أم علي وفستقها الحلبي ، ولنرجع لموضوع حديثنا يا فيلسوف فريد .
= لست أحب تكرار الكلام ولكن لأجلك فقط سأعيده واعتبره كأجرة التوصيل .
- لم أكن أدرك أهميته وقتها حين تكلمت مع المدير ، فلا تبخل علي ولو بإيجاز .
= سلمك الله ، هذه الملل المتعادية لم تتطرف إلا بسبب اعتقاد قوي بمعتقدات ومفاهيم يظنون أنها من الدين ولأجلها يستميتون في الدفاع عنها ويمنعون عقولهم من سبرها وتحقيقها لأنها في نظرهم حقائق مقدسة لا تقبل النقاش ، ولن يفلح أحد في مناقشتها ومداواتها إلا إن استعمل مصدر هذه الحقائق المقدسة ضدهم ، والتجربة خير برهان .
- ألهذه الملل المتناحرة نقطة اتفاق بينها ؟ لا أظن ذلك .
= لا تقطع علي حبل أفكاري ، يا حمد إن موضوع علاج هذه المرض طويل ، ولو تعمق في فكر كل ملة على حدة بالبحث عن حل ديني تؤمن به لتطرفها فهذا جميل وأنجع ، ولكن لنعد إلى موضوع فكرتي وهي صالحة لجميع هذه الملل المتناحرة ، ألا ترى أنها جميعا تنتسب إلى نفس الدين ، فكر ما هو دستور هذا الدين الذي لا ينازع عليه أحد من المختلفين ؟
- إنه القرآن الكريم بكل تأكيد ، لا أظن أحدا منهم يخالف في ذلك .
= أحسنت ، ولهذا فإني اعتمد عليه في فكرتي كمرجع أساسي يذعن له المفترقون فهو يطرح أفكارا كثيرة عميقة تعالج كثيرا من أفكارهم المتطرفة ، فمنها :
أن القرآن الكريم يحارب وبشدة ادعاء الانفراد بمحبة وجنة الرحمن ، فمن تأمل في نصوصه وجده قد ذم من ادعى انفرادا بهما ، كما أنه قد ذم من جعل من آراء علماءه نصوصا مقدسة تحول بينه وبين القرآن - وما أزمة البعد عن فهم كلام رب البشر إلا ما حال بينه وبين نصوصه الطاهرة من آراء البشر - وفي القرآن أيضا أمر لجميع المختلفين أن يردوا جميع خلافاتهم إليه ، وأنت تراهم يدعون ذلك ولكنهم حقيقة لا يرجعون إلا لتلك الحواجز البشرية المتطرفة .
والقرآن الكريم يرشد إلى أن الخلاف سيبقى ولا بد ( ولا يزالون مختلفين ) وهم لا يتقبلون وجود أصغر خلاف فكري معهم فهم لا يرون في الوجود إلا هم ومنهم من يهدر دم مخالفه لأقل خلاف بينما القرآن الكريم يقولها علانية ( أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) ، بل ولا يأخذون بتوصياته لأجل التعايش السلمي ، فهو يحث على البر والقسط مع كل من ليس عدوا محاربا  فما بالك مع من هم من نفس الملة ، ألم تقرأ قول الحق ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) ؟ وكم أحب قوله تعالى ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) فمنعنا من إهانة معتقدات الآخرين الموغلة في الانحراف في نظرنا  صيانة لمعتقدنا الذي نراه حقا من احتمال الإهانة " أصون نفسي عما يدنس نفسي " ثم قال ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبؤهم بما كانوا يعملون ) فكما أني أرى أن معتقدي هو الحق الذي لا لبس فيه فكذلك من خالفني ، وكما أني لا أرضى إهانة فكذلك هو ، وختام الآية الجميل يرشدنا إلى ترك الخلق إلى خالقهم فهو من سيحاسبهم لا نحن ، وليس فيما سبق أي دعوة للتمييع بل ليلتزم كل من المختلفين قول الرحيم ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ... ومثل هذه الأدوية للتطرف كثيرة وحديثها ذو شجون .
- الله ، معان جميلة وآيات كأني أسمعها لأول مرة ، إذن باختصار فكل تصوراتهم الذهنية الخاطئة لا مجال لتغييرها إلا من خلال القرآن الكريم وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى كما تفضلت .
= نعم أصبت ، فأول العلاج تنبيههم إلى أن القرآن الذي يقدسونه يخالف أوهامهم التي ينسبونها إليه .
- ها قد وصلنا البيت يا فتى ، لا أنيس لك ولا ونيس كالعادة ، ما رأيك لو شاركتنا مع المجموعة الصعبة في ليلة الغد بالمقهى ؟ على الأقل نتسلى ونكمل هذا الحوار فلدي كثير من الإشكالات .
= اعذرني يا طويل ، ولعلي أكمل معك في فرصة أخرى ، أنسيت أن غدا ليلة شاي القمر ؟
- آه نسيت ذلك ، العزاب الكبار غريبوا الأطوار في هذه الأيام .
= هل تحسدني على مزاجي وحريتي أم أنك تعيب علي العزوبية ؟ على فكرة : كذلك كنتم من قبل .
- فمن الله علينا ووقانا .
= ارحل يا قصير .
ليلة

في مساء اليوم التالي وبعد غروب الشمس توجه فريد إلى مكانه المفضل على شاطئ البحر ، إنها ليلة الثالث عشر ، أولى ليالي اكتمال القمر ، كم يعشق فريد منظر البدر المنير وهو يشرق جهة البحر لينعكس نوره على سطح البحر مظهرا ألوانا جميلة ، أبيض مذهب وفضي مزرق ، كم عجز فريد عن وصف هذا اللون المتراقص بفعل حركة الأمواج الهادئة ، ويمتد هذا النور الفتان وكأنه بساط متلألئ فوق الماء يسير عليه مريد القمر .
تخطى فريد الحواجز والصخور حتى وصل إلى مكانه المفضل على صخرة بارزة ، وفي يده كوب شاي أعده بخلطة مزاجية من زعفران وهيل وورد ، فجلس في مكانه المفضل وأمامه المنظر الساحر وبيده شرابه الآسر ، وبدأ في خلوة مع نفسه وأفكاره ، ليس فريد من النوع الذي يعيش للمشاكل أو عليها بل للسعادة في حياته وأخراه ، ولكنه اليوم تراوده هموم مجتمعه وسوء تصرف من بيدهم الأمر مع السرطان الفكري الذي بدأ ينهش في وطنه ، بل ربما زادوا الطين بلة مع أن بيدهم سلاح القانون الذي هو وسيلة جبرية لتقويم ما لا يستقيم ، فعادت به ذاكرته إلى المرحلة المتوسطة وأيام الصبا المشاكسة وتذكر موقفا لا يزال له أثره في نفسه عندما تشاجر مع زميله في الفصل منصف بسبب استهزاء هو ابتدأه بمعتقدات منصف ، فقد كانا من فئتين مختلفتين ، فلم يفعل أستاذ المادة وقتها شيئا سوى التوبيخ للفصل كله ! فاستمر الشجار اللفظي لتعميم كل منهما الشتيمة على فئة الآخر وكبرت دائرة الصراع ، حتى دخل الأستاذ عادل السمح البشوش الفصل وأوقف الشجار وكان عادلا في تنفيذ عقوبته ، أخذ المسيء فقط واحدا بعد واحد خارج الفصل ليعاقب كل مسيء بما يناسبه ويتحرى المشكلة وأسبابها، كان العقاب بكل بساطة حوارا راقيا من المعلم مع تلاميذه المخطئين لا يزال حاضرا في ذهن فريد ، سأله الأستاذ في دوره : لماذا ابتدأت الشجار مع منصف ؟
= لأني سمعت أن فئته كثيرة الشتم والسب لنا .
- هل سمعت شيئا من زميلك منصف ؟ أجبني بكل صراحة .
= لا لم أعرف منه أي إساءة أبدا ، ولكنهم يقولون عن فئته ...
لحظة تخبرني أنه لم يسئ إليك أبدا ثم تحمله ذنب غيره ؟ يا فريد أعرفك تلميذا ذكيا ، ألم أشرح لكم في الحصة السابقة قوله تعالى ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ما ذنب منصف أن يعاقب بسبب جريمة غيره ؟ أليست العقوبة شخصية ؟ ثم أهكذا يكون أخذ الحق ؟ يا فريد قد أسأت في حق منصف ، ولكن عندي لك مفاجأة أتعلم ماذا كان جواب منصف عندما عرضت عليه أن أعاقبك أخذا لحقه ، بصراحة لقد أدهشني ، قال لي : أستاذي منك تعلمت أنه لا حرج على الإنسان أن يطالب بحقه ولكنك أيضا علمتنا أن الله يقول ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) لذلك فقد عفوت عن فريد  .
بمجرد أن سمع فريد قرار منصف احتقر نفسه كثيرا وشعر وكأن منصفا في رتبة عالية بعيدة عنه ، ولم يستغرب فريد بعدها من المثل القائل " العفو أشد أنواع الانتقام " فقد ذاقه صغيرا وأدرك أنه علو في الإنسانية وليس سذاجة كما يظنه بعض من أفراد مجتمعه .
وبعد أن انتهى العقاب دخل الأستاذ الفصل وأمر المسيئين بالتصفيق لمن لم يتدخل في النزاع ففعلوا ، سأله أحد الطلبة المخطئين مستغربا ، نصفق لهم يا أستاذ وهم لم يفعلوا شيئا ؟
أجابه : بلى قد فعلوا ، أساء كل طرف من المتشاجرين إلى فئاتهم فتحملوا الإهانة في سبيل عدم ازدياد المعركة نارا ، لقد كانوا حكماء أكثر من الذين انجرفوا في نزاع بين شخصين .
تذكر فريد هذه اللحظات وكأنها حاضرة أمامه بالصوت والصورة وكم تمنى لو أن الكبار يتعلمون من دروس الصغار .....
موعد

ارتفع القمر كثيرا حتى خف نوره المنعكس على سطح البحر وشعر فريد بالجوع بعد جلسته التأملية المعتادة ، فقرر العودة مبكرا على غير عادته ، وبينما هو يتنقل بين الصخور عائدا إذا برجله اليسرى فجأة تنزلق لتجرحها حديد صدأة رطبة من ماء البحر بجرح غائر ، رمى فريد كوبه من شدة الألم وصرخ بطريقة لم يعهدها من قبل فهذا جرح حارق حاد عميق ، وصل إلى سيارته بجهد بالغ وتوجه إلى أقرب مركز طبي ، وجد المركز هادئا فقد كان وقت المناوبة الليلية ، كانت الممرضة تتمشى خارج غرفتها نظرا لقلة الحالات الليلية وبمجرد أن شاهدت فريدا شهقت وقالت : " ما الذي حدث لك ، أيها العامل ، أيها العامل ، أحضر كرسيا متحركا بسرعة " .. لم تجد أي أحد حولها لها فأمرت فريدا بالجلوس وأحضرت له كرسيا متحركا بنفسها وساعدته على اعتلاءه وذهبت إلى غرفة التمريض ، سألته الممرضة في الممر عن حالة جرحه وهل وصل إلى العظم أم لا ، ودخلا إلى الغرفة فإذا الطبيب يصحو من غفوته من على المكتب منتبها للحالة الحرجة أمامه فقام فورا والممرضة تعاونه بتنظيف الجرح وتعقيمه وتضميده وعمل ما يلزم له وقال له الطبيب بعدها : " سلامات يا سيد ... "
= فريد يا دكتور .
- سلامات يا سيد فريد ولا باس عليك ، الحمدلله جرحك ليس خطرا ولكن حبذا لو أتيت غدا للاطمئنان عليه واذهب إلى صيدلية المركز فقد كتبت لك مطهرا يساعد في التئام جرحك .
أتت الممرضة بالكرسي المتحرك وقالت لفريد : " يبدو أنه لا أثر لوجود أي عامل دعني أساعدك يا سيد فريد " لم يرفض فريد هذا العرض رغم أنه معتاد على رفض كل إحسان أو معروف من قبل الآخرين ولكن وبعد أن خفت حرقة الجرح شعر بارتياح نحو الممرضة ، وأخذ يتساءل أثناء الحركة في ممرات المركز والممرضة تدفع كرسيه : " يا إلهي ، ما الذي اعتراني ؟ أنا أشعر بشيء غريب مع هذه الممرضة ، من طريقة ارتداءها لثيابها يبدو أنها من الفئة الأخرى ، لحظة ما الذي أفكر به  وهذه الهلوسات التي اعترتني " توقفا عند شباك الصيدلية وطلبت الممرضة من الموظفة المختصة إحضار اللازم ، وأخذ فريد يتأمل هذا الوجه اللطيف الذي أحسن إليه وتنبه إلى موقفها الشهم حينما أقبلت على مساعدته بإنسانية قل مثلها ، استلمت الممرضة المطهر وأوصلت فريدا إلى باب المركز وأصر فريد على عدم إتعابها وتكليفها مزيدا من الجهد ، تحمدت له بالسلامة فشكرها فريد شكر منهك وغادر إلى سيارته متجها إلى البيت لينال بعض الراحة وطوال هذه الفترة كان في حديث مع نفسه :
" يا لهذه الإنسانة الرائعة كيف تعاملت معي بواجب إنساني انحسر كثيرا اليوم بحجة عدم الاختصاص ، ولكن لماذا أعطتني مزيد عناية ؟ هل هي تربيتها أم ردة فعل غير مسؤولة أم الواجب الإنساني أم ... لا لا لا ، ما الذي أفكر به ؟ هذا مستحيل ، هل يعقل أن تكون حبا ؟ تعوذ بالله من الشيطان يا فريد فالمرأة لم تفعل إلا واجبها ، لكن لم لا يكون حبا من النظرة الأولى ؟ ما هذه الهرطقات المراهقة التي تفرض نفسها علي ... "
بعد عدة صراعات ذهنية مع نفسه قرر فريد أن ما وقع به إما حب سيطر عليه أو إعجاب حتى استرسل تفكيره الأعزب إلى فكرة الزواج : " هل أتزوج أنا بعد عشرة العمر مع الحرية ؟ وممن ؟ من امرأة ليست من فئتي والغريب أني أنظر إليها هكذا وأنا المحارب للطائفية ؟ اللهم اكفني شر شماتة حمد ، ولكن أليست من ضمن المواضيع التي أطرحها لعلاج الطائفية هي مسألة إباحته سبحانه وتعالى للزواج من الكتابية ، فمتطرفوا اليوم يحرمون تزويج مخالفيهم الذي هم من نفس دينهم ولا يلتفتون إلى هذا المعنى العميق ، وليت شعري لماذا لا يفكرون في موضوع إباحته سبحانه وتعالى الزواج من اليهودية العفيفة وتحريمه الزواج من المسلمة غير العفيفة ؟ إنه لم يلتفت إلى العقائد بل إلى أمر آخر ، تمهل يا فريد فأنت أيضا تشبههم فأنت توقفت في أمر الممرضة لكونها من فئة تحمل عقائد مخالفة لعقائدك ، هل نسيت يا فريد أن الذات الإنسانية ليست مجرد معتقدات فأين هي الجوانب الأخرى ، وربما ما أوقعك بالاعجاب بها إلا جوانب أخرى غير المعتقدات كالأخلاق والإنسانية و .. والجمال ، ولماذا تركت كل المعتقدات التي توافقك فيها وركزت على الخلاف ؟ "
أخذ فريد يستعيد مشهد مساعدة الممرضة له ثم تابع حديثه النفسي : " بصراحة قد أمانع من ناحية العقائد ليس لناحية شخصية ولكن لما يفرضه هذا المجتمع ، هل سيوافق أهلي على مثل هذه الزيجة ؟ ولكن ألسنا مجتمعا يدعي التمسك بتعاليم دينه ؟ آه ما هذا الشعور ؟ هل أختار الحب وفسحة الدين أم الاستسلام للمجتمع ؟ هل أقدم نفسي أم الآخرين ؟ "
مضى عليه الليل وهو في حوار ذهني قد يصنع قرارا مصيريا حتى نام بأعجوبة .

أمل
فريد : السلام عليكم .
الموظف : وعليكم السلام .
= أريد منك خدمة ، هلا أخبرتني باسم الممرضة التي كان لديها نوبة في ليلة البارحة فقد نسيت عندي شيئا لها "
- بكل سرور ، انتظر من فضلك ... اسمها فرح عبدالله السوسني .
= شكرا لك أيها الفاضل .
خرج ينظر إلى السماء الغائمة وعلى وجهه المبتسم مسحة من أمل ورجاء .


الـنـهـايـة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق