الأحد، 7 يونيو 2015

العين الحارة والنظرة الوردية



العين الحارة والنظرة الوردية

دار نقاش أكاديمي طريف بين الدكتور وطلاب الدراسات العليا حول قضية العين الحارة .
إذ أثناء مناقشة آيات الحسد قال الدكتور : أستغرب ممن يُفسر آيات الحسد بالعين دون التفات إلى أن شر الحاسد الفعلي هو مادي ملموس محسوس ، فالحاسد قابيل مثلا لم يقتل أخاه هابيل بشر عينه بل بفعله وجنايته الملموسة ، وكذلك فعل قبله إبليس مع آدم .
اعترض الطلاب على الأستاذ مسطرين أمامه آراء المفسرين وأخبار المحدثين المثبتة للعين ، فانتظر الدكتور هدوءهم ليباغتهم بسؤاله : طب لو اللي بتقولوه سليم ليه ما نجيب عشرة بتوع عين ونسيبهم يخربوا بيت إسرائيل ؟!
فعم الصمت ليبدأ ضجيج السؤال ...

يتفق الحسد والعين في أن كليهما تمني زوال نعمة المحسود ، لكن تختص العين عند معتقديها بأنها نظرة استحسان لتلك النعمة بقصد إهلاكها مشبهينها بسهام تنطلق من العين لتحدث ضررا بتلك النعمة أو صاحبها ، لكن هل مجرد هذه النظرة الشريرة للأشخاص المحسودين مؤثر وضار بهم دون ريب 100% أم أن للمسألة أبعادا أعمق ؟
 لا شك أن تمني زوال نعم الآخرين خلق ذميم دال على دناءة صاحبه تاركا عليه نارا في صدره وتبعات مؤذية أخرى ، كما أن هناك آثارا جانبية أشد قبحا للاعتقاد بوجود العين وتأثيرها لا تقل دناءة عن رذيلة الحسد .
فالاعتقاد بتآمر الناس على المحسود ورؤيتهم كأشرار مبيدين لسعادته ومتحكمين فيها مرض وسوء ظن مؤلم مدمر للنفس قبل الغير لا يدع صاحبه مرتاحا من الهموم والغموم .

فعند الحسود ينقلب المدح سُمّا ، والإعجاب لُغْمًا ، وتنقلب الحوادث العادية إلى مؤامرات ، ويتحول الأقربون إلى أعداء تُخبَّأ عنهم المعلومات ، وبدلا من تحمل الفشل الشخصي سيكون الآخرون شماعة أخطاء ذلك المحسود المَلاك ، كل ذلك بسبب فكرة العين الضارة التي لا تُرى ولا يُدرك فاعلُها بأي وسيلة .

لو تأملنا في أصول فكرة العين الشريرة المنتشرة في مجتمعاتنا لوجدنا لها ثلاثة أسس ، فيما يلي عرضها مع المناقشة :

الأساس الأول : تراثي يتضمن نسبة دينية :

لَما تأملت في الآثار الجانبية للاعتقاد بوجود العين وأدركت مدى دناءتها وسوء أثرها النفسي على المعتقد بها تساءلت :
هل يمكن للإله الرحمن الرحيم الحكيم الذي جعل كيد الشيطان ضعيفا أن يشرع مثل هذا الاعتقاد الوضيع ويجعل لأشرار البشر مثل هذه السلطة اللعينة على أهل النعم بل وقوة تنافس قدرته الإلهية كما تزعم الأخبار ؟
الحمد لله أني وجدت الدين بريئا من تلك التهمة ، فليس في القرآن أي نص صريح في مسألة العين إطلاقا ، وكل ما فيه من آيات الحسد في مواضعها الأربعة لا دخل لها بالعين أبدا .
فالله ذكر تمني بعض أهل الكتاب لزوال إيمان المؤمنين ( حسدا من عند أنفسهم ) ولم يترتب على ذلك الحسد شيء .
 كما أنه في سورة الفلق أمرنا بالاستعاذة ( من شر حاسد إذا حسد ) لا من شر الحسد ؛ فالحسد نفسه غير مضر بل الضرر يأتي من  صاحبه الحاسد بالسعي والفعل ، ولا ارتباط بالعين هنا .
وأما الذين ( يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) فما ضروهم بعينهم أبدا .
وأما المخلفون من الأعراب الذين قالوا ( بل تحسدوننا ) لم يكونوا يريدون أبدا أن المؤمنين يضرونهم بأعينهم .

إذن فمن أي نص قرآني أثبتوا قضية العين ؟

من أحب أن يغلف معتقده بالعين بالحارة بنصوص قرآنية قد فعل ذلك في النصوص التالية :
1- فَسَّر قولَ يعقوب عليه السلام لأبنائه المتجهين إلى مصر ( لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ) بأن سببه كان الخوف عليهم من العين نظرا لجمالهم وأخوتهم في نفس الوقت !
رغم أن الآية لم تنص على العين ، ورغم أن التفسير الواقعي البعيد عن تكلف الخوارق هو خوفه عليهم من أذية حراس البوابات ، إذ لو كان نهي يعقوب خوفا من العين لاستمر النهي في سكك المدينة أيضا إذ العيون الحارة لا يقتصر اجتماعها عند البوابات ، ولماذا لم يعلمهم الأذكار الواقية من العين وهو النبي ؟ أليس أيسر لهم بدلا من الدخول من أبواب متفرقة ؟ أم أنه كان يجهلها ؟
في حمل القصة على العين هنا إساءة لا أرتضيها لنبي الله يعقوب عليه السلام وتشويه لأجمل القصص لا أرتضيه ، وللأسف لا بواكي للتفسير الخالي من التكلف والقريب من الواقع لأجل الاعتقاد بك أيتها العين الشريرة !
2- في قوله تعالى ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) فَسَّر الآية بالإصابة بالعين ، رغم أن ظاهر السياق واللغة ضده تماما .
إذ لو كان القصد من ( ليزلقونك بأبصارهم) إصابته بالعين لما قالوا ( إنه لمجنون ) ، فالعائن بالعادة يظهر إعجابه بمن يحسده وسياق الآية سياق ذم وانتقاص لا إعجاب .
بل المعنى اللائق بالسياق هنا بلاغي يفيد أنهم كانوا ينظرون إلى النبي نظرة الحقد والبغض من شدتها تكاد أن تؤذيه ، كقول العرب : كاد يَصْرَعُني شدَّةُ نظره ، وهو تعبير دارج بين العرب دال على شدة البغضاء كما ذكرت قواميس اللغة ، فلا علاقة له بالعين .
وأما ما يورد من الآيات الأخرى فالاستدلال بها على العين مسيء للآيات نفسها ومعناها وسياقها ، لذا نصرة للقرآن لا للعين فلنوقف الاعتباط بالأدلة .
حسنا ، لكن ماذا عن أخبار المحدثين المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟
طالما أن إثبات قضية العين ليس معتمدا على قطعيات النصوص فمناقشته وردها أيسر ، إذ كم من أخبار زعمت أنها في الصحاح والقرآن يبطلها ويخالفها صراحة كادعاء الرواة سحر النبي ووجود الاكراه على الدين ووجود معجزات غير القرآن وغيرها كثير ، فلا يبعد أن تكون قضية العين منها .
وعند فهم قضية العين يجب الانتباه أنها كانت من معتقدات وموروثات العرب في الجاهلية ، فلا يبعد أن تعطى طابعا دينيا عند معتنقيها كما حصل مع غيرها من القضايا ، وهو واقع في تراثنا الإخباري حيث تجد أن عرب الجاهلية كانوا جبرية قدرية فظهرت نصوص القدر والجبر تماشيا مع التيار ، بل منها ما جعل القدر الجبري ركنا رغم انعدام إشارة القرآن له ضمن بقية أصول الإيمان .
لذا أن تنعدم تصريحات القرآن الكريم عن مثل هذه القوى الغيبية المخيفة المبيدة للنعم ويترك إثباتها للوسائل الأضعف لهو علامة قوية على ضعفها وعدم صحتها ، وسيفهم هذا الكلام من اشتغل بعلم الحديث متحررا من سجون أهله .
وعلى فرض صحة نصوص العين فلا أجد لها محملا حسنا يليق بخاتم الأديان إلا من باب مجاراة القوم في عاداتهم الدنيوية التي يصعب تغييرها كما جاراهم النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة المفترض ونحوها ، لذا أخذت علاجاتها طابعا نفسيا لمن يتأملها كالأذكار والوضوء .
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم – إن سلم  بصحة نصوص العين الحارة – خاطب العقلية السائدة المؤمنة بالعين بما يناسبها وعالج الفكرة بفكرة مثلها . وسيتضح هذا المعنى أكثر عند تناول النظرة الوردية  لقضية العين .

الأساس الثاني : علمي :

يستدل مثبتو العين الشريرة - في الآونة الأخيرة خاصة بعد نشر المبدع الفاضل د وليد الفتيحي في برنامجه الشيق ومحياي حلقة عن أثر العين الشريرة  التي تبحث علميا تحت مصطلح Evil Eye  - بعالمين يدعيان وجود سند علمي لتأثير العين ، مع كل الاحترام للدكتور الفاضل لكن استدلاله بالعالمين محل اعتراض علمي لما يلي :
الأول : كولن روس Colin Ross الطبيب النفسي والمدرب المختص بمعهد روس لعلاج الصدمات النفسية بولاية تكساس الأمريكية ، استُدل ببحثه الذي يثبت فيه أن العين تطلق شعاعا كهرومغناطيسيا يمكن قياسه تجريبيا معبرا عن طاقة منبعثة .
للأسف لم ينتبهوا أن كولن روس قد اعترف لاحقا للموقع العلمي The Skeptic's Guide to the Universe أنه قد زيف التجربة وتلاعب بها ، مما يعني أن استنادهم باطل مزيف باعتراف صاحبه .
الثاني : هيروشي موتويام Hiroshi Motoyam ، وهو ياباني حاصل على الدكتوراه في علم النفس وفي الفلسفة أيضا ،  لا دخل لمؤهلاته بالتكنولوجيا ، حيث ادعى قديما ومنذ الثمانينات أنه صمم جهازا دقيقا لقياس طاقة منبعثة من بين العينين ، ظنوا أنه مركز العين الشريرة .
وللأسف فليس هيروشي موتويام مختصا في هذا المجال بل وأبحاثه قديمة لم تترجم للإنجليزية إلا متأخرا فتحتاج إلى مراجعة علمية ، كما أن كلامه ليس عن العين الحارة بل عن ما يعرف بالفلسفات الشرقية بالتشاكرا وكان يتكلم عن العين الثالثة التي هي مكان يشير إلى منتصف الجبهة من الأسفل لا عن العينين ، فليس كلامه محل احتجاج .
واستباقا لأي استدلالات متشابهة فإن علم هذه الظواهر المسمى بالباراسيكولوجي لا يزال حديثا حتى يثبت نفسه علميا فمن الاستعجال الأخذ بكافة نتائجه والتنظير عليها دون نضج .

الجانب الثالث : التجارب البشرية :

ما أن تفتح موضوع تجارب محيطك مع العين حتى تسمع فيضا من القصص تكاد تجبرك على تصديقها ، لكن ماذا عن حقيقة تلك التجارب ؟
لم يشاهد أحد تأثير العين وأدركه ، وربما كان مصادفة واحتمالا تحقق مرة فبالغ الناس في نقله حتى صنعوه أسطورة .
انظر إلى حال من يتهمهم الناس بأنهم " وحدة بوحدة " " عينه والقبر " " لا يحوشك " ستجد أنه كل ما حصل أنه صادف موقف أو موقفان توافقا مع كلامه من بين مئات محاولات العين الفاشلة فجعل الناس منه " بوعين حارة شقاقية " وجعلوا من الحبة قبة كما هي عادة البشر في كوكب الأرض .
لماذا لا يتمكن صاحب العين الحارة من التحكم بعينه طول الوقت موقعا الضرر على الناس 24 ساعة 7 أيام في الأسبوع ؟ أم يبدو أن عينه الحارة لا تعمل إلا نادرا ؟
لو كان له قدرة كاملة عليها وكونها قوة حقيقة مؤثرة لنجب على سؤال الدكتور السابق : ليه ما نجيب عشرة بتوع عين ونسيبهم يخربوا بيت إسرائيل ؟

النظرة الوردية

حسنا ربما كان هناك جانب غريب غامض في الموضوع يجب التطرق له – حتى لا أتهم بالتحامل على قضية العين الحارة على الأقل -  ففي الكتاب الماتع المثير للقلاقل والضحك " خوارق اللاشعور " للمرحوم د علي الوردي تناول قضية العين بشكل جاد ذاكرا ملاحظاته من نظرته الوردية الجديرة بالتأمل .

لاحظ الوردي حوادث إصابات العين محاولا فهمها والتطرق لعلاجها وطريقة عملها ، فانتبه إلى أن سببها الرئيسي فكرة يعتقدها صاحبها فتضره أو تنفعه .

وللتقريب : فإنه يقال في التراث : " من اعتقد في حجر نفعه " أي كونك تعتقد بشدة أن هذا الحجر يضرك أوينفعك فسيكون لهذا الحجر تأثير عليك ، لا لكونه مؤثرا فعلا ، بل لأنك فكرت واعتقدت أنه كذلك ، وللعلم فإن فكرة العلاج بالأحجار الكريمة تدور حول هذا المبدأ .

وهذا هو الحاصل في قضية العين الحارة ، " إن العين لا تصيب إلا من يعتقد بها " – أي الإنسان الناجح الذي يظن أنه دوما محسود وضحية لعين الحساد – " وهذا الاعتقاد يجعل الأمواج  الصادرة من صاحب العين ذات أثر متسلسل في أعصاب الضحية فتطرحه أرضا " .

ولاحظ الوردي أيضا " أن حوادث إصابة العين لا تقع إلا في المجتمعات الجاهلية التي يسهل انتشار الخرافات فيها " – لا يقصد العالم العربي طبعا – " فما أن يسمع الناس عن شخص له عين فتاكة حتى تراهم قد هربوا من وجهه ، وهذا الجو النفسي المخيف يؤدي إلى سقوط كثير من الضحايا بطريق الإيحاء " .

أي خلاصة ما يريده قوله عالم الاجتماع النادر علي الوردي : أن المجتمع نفسه الحاسد والمحسود كلهم مسؤول عن وقوع ضرر العين ، فعندما نوهم الحاسد أن له عينا حارة مؤذية فنحن نعطيه هيبة وإيحاء بقدرته على ضرر الآخرين .

وعندما يعتقد المحسود أن لِحساده سلطة وتأثيرا على الإضرار به فهو نفسه من سمح لهم بالإضرار به نتيجة لتفكيره وعقيدته التي تمنح للناس هذه القوة ، ففي الواقع المحسود هو المسؤول الأول والأخير عن حوادث العين الواقعة له .

وعلى ما تقدم يكون أفضل علاج للوقاية من العين الحارة وانعدام تأثيرها والتخلص منها نهائيا هو عدم الاعتقاد بوجودها أصلا ومعاملتها كخرافة .

ولهذا كتبت هذا البحث خدمة لهذا العلاج مكافحة لمرض نفسي منتشر .

ختاما :

صدق القائل: مجتمعنا منشغل بالخوف من العين ، أكثر من انشغاله بعمل شيء يستحق أن يحسد عليه !
بيد الإنسان صناعة سجونه ومخاوفه كما بوسعه العيش حرا ، وبوسعه تبني الأفكار المنمية له أو المميتة لنفسه ، والشريعة وسيلة والحياة محايدة ، وكل نفس مسؤولة عن نفسها ، عن نجاحها وفشلها ، لذا ليتوقف اللوم وتوزيه الاتهامات ولتبدأ المحاسبة ، أما إن ظل الإنسان يلوم أشباحا لم يراها فهو الخاسر الأكبر الذي قتلت طموحه  أعذاره .

أدرك أن هذا البحث سيضايق تجار الرقية الشرعية ومحلات البخور .

دمتم بوعي

محمد جاسم الفودري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق