ما يلي جزء من أطروحتي الماجستير أنشره تيسيرا للباحثين
لقراءة الرسالة كاملة من هنا
أما قبل :
( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )
- أصول الإسلام لا تنبني على ظنيات وأمور قابلة للتضاد وعدم العصمة .
- الصحابة رضوان الله عليهم رفضوا مبدأ حجية قول الصحابي ، فهل اتباعهم يكون بجعل أقوالهم أصلا من أصول الدين أم برفض هذا المبدأ كما رفضوه هم ؟ باختصار : الاحتجاج بالصحابة يسقط حجية قول الصحابة ... ( دليل عائد على نفسه بالبطلان )
- هل صح حديث واحد صريح يفيد حجية قول الصحابي ؟ بل هل خلا حديث منها من نزاع تجاوزا ؟ ثم هل أصول الإسلام تبنى على مثل هذه الأحاديث المتنازعة ؟
أما بعد : ( التفصيل )
تجدر الإشارة إلى تعريف الصحابي الذي اختلف الأصوليون في حجية قوله وهو :
من
طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم واختص به اختصاص المصحوب متبعا له مدة يثبت
معها إطلاق " صاحب فلان " عليه عرفا . ( فليست مجرد الرؤية لوحدها كافية )
اختلف الاصوليون في حجية قول الصحابي على أقوال ، وبيان ذلك فيما يلي :
تحرير
محل النزاع :
-
إذا قال الصحابي رأيا في مسألة مخالفا لرأي صحابي آخر فليس بحجة اتفاقا .
-
وإذا قال الصحابي قولا ثم رجع عنه فليس بحجة أيضا بالاتفاق .
-
وإذا قال الصحابي قولا و انتشر بين الصحابة دون ظهور مخالفة من أحدهم فهي حجة لمن
يرى أن الإجماع السكوتي حجة .
والتفصيل
السابق يشمل قول الصحابي في المقدرات الفقهية وغيرها[1]،
فيتضح أن محل الخلاف بين الأصوليين في إثبات المقدرات الفقهية بقول الصحابي هو في
حالة انفراد الصحابي بهذا القول في مسألة اجتهادية دون مخالفة أحد من الصحابة له
مع عدم اشتهار قوله أو مع اشتهار قوله لكن مع عدم اعتبار حجية الإجماع الظني ، فهنا
اختلف الأصوليون في هذه المسألة ويمكن إيجاز خلافهم في قولين[2]:
القول
الأول : أن قول الصحابي حجة في إثبات المقدرات ، وإلى هذا ذهب بعض الحنفية[3]
ويظهر أنه هو قول الشافعي[4]
[5]،
وقصروا حجيته في أمور المقدرات وما يأخذ حكمها فقط ، والقول بحجية قول الصحابي في
إثبات المقدرات هو مقتضى القول بحجية قول الصحابي مطلقا الذي هو قول جمهور
الأصوليين[6].
القول
الثاني : أن قول الصحابي ليس حجة في إثبات المقدرات ، و هو قول جمهور أصوليي الشافعية
، وهم ينفون حجيته مطلقا سواء في أمور المقدرات أو غيرها[7].
أدلة
القول الأول :
استدل
أصحاب القول الأول بأدلة من القرآن و السنة و الإجماع والمعقول :
-
فمن القرآن الكريم :
1-
قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )[8].
وجه
الاستدلال :
أن
هذا خطاب مشافهة يختص بالصحابة فيما يأمرون به وينهون عنه فيكون كل ما أمروا به
معروفا وما نهوا عنه منكرا ، فيكون الأخذ بقولهم أو مذهبهم واجبا لأن الأمر
بالمعروف واجب القبول والنهي عن المنكر واجب الامتثال[9].
-
اعترض عليه من وجهين :
الوجه
الأول : بعدم تسليم أن الخطاب في الآية خاص بالصحابة بل هو خطاب لجميع المؤمنين
كسائر ما ورد به الشرع[10].
الوجه
الثاني : على فرض التسليم أن الآية مختصة بالصحابة فهي إخبار عن جماعتهم وما تأمر
به جماعتهم حجة لأنه من باب الإجماع وهذا خارج محل النزاع إنما الخلاف هو في انفراد كل واحد منهم[11].
2-
قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عنهم ورضوا عنه )[12].
وجه
الاستدلال :
أن
رضوان الله تعالى عمن اتبع الصحابة دليل على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ ، وإذا كان
صوابا وجب اتباعه لأن خلاف الصواب خطأ والخطأ يحرم اتباعه ، فكان النص دليلا على
وجوب تقليدهم[13].
-
اعترض عليه :
أنه
لا يسلم أن المراد باتباع الصحابة هو تقليدهم في أقوالهم وإنما المراد من اتباعهم
هو سلوك طريقهم ومناهجهم و سيرتهم الحسنة التي كان منها الاجتهاد والنهي عن
التقليد فلم يكن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من يقلد بالاتفاق فكيف
يقال أن من اتباعهم تقليدهم ؟![14]
ولا
يعني أبدا القول بعدم حجية قول الصحابي الانتقاص من منزلة الصحابة الرفيعة أبدا ،
فلا خلاف في فضيلتهم ولا نزاع في ذلك ، إلا أن وجوب الثناء عليهم ليس بموجب أن
يكون قولهم حجة لا ترد فهذا أمر لا يكون إلا من خلال نص صحيح صريح في اعتبار حجية
قول الصحابي، فتبقى النصوص الواردة في فضل الصحابة والثناء عليهم مقتصرة على بيان
فضلهم ووجوب حسن الاعتقاد بهم فقط سواء في
هذه الآية أو التي قبلها إن سلم اختصاصها بالصحابة رضوان الله عليهم ، أو غيرها من
الآيات أو الأحاديث التي فيها بيان فضل الصحابة وعلو منزلتهم والتي يستدل بها
القائلون بحجية قول الصحابي على صحة مذهبهم[15]،
وهي كثيرة ، منها :
-
قوله تعالى : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في
قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا )[16].
-
قوله تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم
ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم
في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب
الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهـم مغفـرة وأجرا
عظيما )[17].
-
ومن السنة النبوية :
1-
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين عضو عليها بالنواجذ "[18].
وجه
الاستدلال :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بالتمسك بسنتهم والعض عليها بالنواجذ وذلك كناية عن ملازمة الأخذ بها وعدم العدول
عنها ، و أيضا فإنه صلى الله عليه و سلم قرن في هذه
الأوامر بين سنته وسنتهم فكانا في الحجية سواء[19].
-
اعترض عليه من وجهين :
الأول
: أن الحديث ضعيف[20].
الثاني
: لو سلم بصحة الحديث فله عدة معان غير معنى إثبات الحجية لأقوالهم فيمكن أن يكون
قصد الشارع أحدها[21]:
-
أنه أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم أي عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم .
-
أو أنه أمر الأمة بأن ينهجوا منهجهم في العدل والإنصاف والإعراض عن الدنيا وملازمة
سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفقر
والمسكنة والشفقة على الرعية .
- أو أنه أراد منع من بعدهم عن نقض أحكامهم .
ولا
يخفى أنه لو سلم للمحتج بهذا الحديث إفادته حجية قول الصحابي فهو لا يفيد العموم
بل هو مقتصر على الخلفاء الراشدين فقط[22].
2-
عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "[23].
وجه
الاستدلال :
أن
ظاهر الحديث يقتضي وجوب اتباعهما[24].
-
اعترض عليه من وجهين :
الأول
: أن الحديث ضعيف[25].
الثاني
: أنه لم يقصد تقليدهم في أقوالهم بل قصد الاقتداء بهم في سيرتهم الحسنة ومنهجهم
في العدل و الإنصاف وملازمة سيرة النبي صلى الله عليه و سلم[26].
ولا
يخفى أن النص ليس عاما لجميع الصحابة ، فلو سلم به فهو مقتصر على أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما .
3-
مما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أصحابي كالنجوم بأيهم
اقتديتم اهتديتم "[27].
وجه
الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الاقتداء لازما للاهتداء بأي واحد
منهم ، وذلك يدل على أنه حجة وإلا لفرق
بين المصيب وغير المصيب فإن الاقتداء بغير المصيب ليس اهتداء[28].
-
اعترض عليه من وجهين :
الأول
: أن الحديث موضوع لا يصح[29]،
و بالتالي لا تقوم به حجة .
الثاني
: على فرض صحة معنى متنه فالمراد من الاقتداء بهم هو الجري على طريقتهم في طلب
الصواب في الأحكام لا في تقليدهم ، وقد كانت طريقتهم العمل بالرأي والاجتهاد ، وأيضا
فإن النجم يهتدى به من حيث الاستدلال به على الطريق بما يدل عليه النجم لا أن نفس
النجم يوجب الهداية[30].
-
ومن الإجماع :
- أن عبد الرحمن بن عوف
لما بايع عثمان بن عفان رضي الله عنهما قال : " أبايعك على سنة الله ورسوله
والخليفتين من بعده " ، فبايعه عبد الرحمن ، وبايعه الناس ، المهاجرون
والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون[31].
فاشترط الاقتداء
بالشيخين بعدما ذكر الكتاب والسنة أولا فقبل عثمان ذلك منه وكان بمحضر الصحابة ولم
ينكروا عليه فكان إجماعا[32].
-
اعترض عليه من وجهين :
الأول
: أنه لا يسلم أن عبد الرحمن بن عوف أراد وجوب تقليد الشيخين ، بل يحتمل أنه أراد
اتباعهما في السيرة والعدل[33].
الثاني
: أن قول عثمان معارض بقول علي فإنه لما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف الخلافة بنفس
الشرط الذي عرضه على عثمان أجابه : " فيما استطعت "[34]،
فرفض علي للشرط دليل على عدم انعقاد الإجماع فلا يسلم[35].
-
نوقش الوجه الثاني من الاعتراض :
أنه لا يوجد في كتب
الحديث أثر مسند معتمد ينص على أن عبد الرحمن بن عوف عرض ذلك أولا على علي فلم
يقبله ثم عرضه على عثمان فقبله ، فخبر معارضة علي ضعيف لا يقوى على معارضة الإجماع[36].
ولا يخفى أنه لو سلم الدليل فهو خاص بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
ولا يصح تعميمه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم .
-
ومن المعقول :
1
- أن الصحابي لا يخلو من أن يكون قوله توقيفا من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو
يكون اجتهادا منه ، فإن كان توقيفا وجب أن يكون مقدما على القياس لأن خبر الواحد
أقوى من القياس والاستدلال ، وإن كان اجتهادا منه وجب أن يكون اجتهاده أقوى من اجتهاد
غيره لأنه شاهد النبي ، وسمع كلامه ، والسامع أعرف بمقاصد المتكلم معاني كلامه ممن
لم يسمعه ، فوجب أن يكون اجتهاده مقدما عن اجتهاد من لم يسمع منه[37].
-
اعترض عليه :
أن دعوى التوقيف لا
تجوز من غير دليل بل الظاهر أنه أفتى من غير توقيف لأنه لو كان عن توقيف لرواه في
هذه الحالة أو في غيرها من الأحوال .
وأما دعوى قوة الاجتهاد فلا تصح لأنه يجوز أن يسمع من النبي
عليه الصلاة والسلام ويكون غيره أعلم بمعانيه وقصده ولهذا قال عليه الصلاة والسلام
: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمع فرب حامل فقه إلى من هو أفقه
منه "[38].
ولأنه
يحتمل أن يكون أخذ حكم الحادثة من القرآن أو سمعه من غير رسول الله صلى الله عليه
و سلم فيكون هو والتابعي فيه واحدا فلا يكون أقوى فيه من غيره .
ولأنه
لو كان صحيحا لوجب أن يجب على من لم تطل صحبته أن يقلد من طالت صحبته لقوة الأنس
بكلام النبي عليه صلاة والسلام ومعرفة قصده ولما لم يجب ذلك دل على بطلان ما ادعي[39].
وأيضا
فإن اجتهاد الصحابي غير معصوم من الخطأ فيلحقه في الاجتهاد ما يلحق غيره من السهو
والغلط ، وقد كانوا يرون في الحوادث آراء ثم يرجعون عنها لدليل يلوح لهم هو أقوى
من الأول فإذا كان الأمر على ما ذكر لم يكن مجرد قول الصحابي حجة[40].
2-
أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالقياس كالمقدرات ونحوها لا بد من الأخذ به حملا
لقول الصحابي على التوقيف والسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا مجال
للعقل في مثل هذه الأمور ، ولأنه لا يظن بهم المجازفة في القول ولا يجوز أن يحمل
قولهم على الكذب ، فالنصوص الشرعية إنما انتقلت إلى الأمة بروايتهم ، وفي حمل
قولهم على الكذب والباطل قول بفسقهم وإبطال لروايتهم وهذا أمر لا ينبغي المصير
إليه ، فلم يبق إلا الرأي أوالسماع ممن نزل عليه الوحي ، ولا مدخل للرأي في هذا
الباب فتعين السماع ، فتكون فتواه في هذه الحالة كروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم
لأنه لا محمل لها إلا السماع[41].
-
اعترض عليه :
أن الصحابي لعله قال
بما يخالف القياس لنص ظنه دليلا مع أنه في الحقيقة ما كان دليلا[42].
-
أجيب عنه :
أن تقدمهم في العلم
والورع واحتياطهم في أمور الدين ودقة نظرهم فيها يرد ذلك ، فالظاهر
من حال الصحابي ومعرفته وشدة ورعه أنه لا يتبع الظن المرجوح بحيث يكون ما ظنه دليلا
ليس مطابقا لظنه فيجب التمسك بهذا الظاهر إلى أن يعارضه ما هو أرجح منه[43].
أدلة
القول الثاني :
استدل
أصحاب القول الثاني بأدلة من القرآن والسنة وإقرار الصحابة والإجماع والمعقول :
-
فمن القرآن الكريم :
1-
قوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول )[44].
وجه
الاستدلال : أن الآية أوجبت الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم والرد
إلى مذهب الصحابي هو ترك لهذا الواجب[45].
-
اعترض عليه :
أن الرد إلى الله
والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكون إذا كان الحكم المطلوب موجودا في الكتاب أو
السنة وحينئذ متى عدل عنهما كان تركا للواجب ، فأما إذا لم يوجد ذلك في الكتاب ولا
في السنة منصوصا عليه فلا يكون في الرجوع إلى أقوال الصحابة تركا للواجب ، والقول
باتباع مذهب الصحابي مشروط بعدم معارضته للكتاب أو السنة[46].
2-
قوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار )[47].
وجه
الاستدلال :
أنه
أمر بالاعتبار دون التقليد[48]،
والأخذ بقول الصحابي تقليد له وترك للاعتبار .
-
اعترض عليه :
الأخذ بقول الصحابي عند
القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من المدارك الشرعية فلا ينافي
وجوب النظر والقياس كالأخذ بالنص وغيره ، وكما أن الأمر بالاعتبار إذا كان دالا
على الأخذ بالقياس لا يكون منافيا للأخذ بالنص لكون الأمر بالاعتبار إنما هو بعد
فقدان النص فكذلك الأخذ بقول الصحابي[49].
- و من السنة :
- إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لإجابة معاذ رضي الله عنه عندما سأله بم
يقضي إن لم يجد المسألة في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟
فأجابه : " أجتهد رأيي ولا آلو " ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدره
وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله "[50].
وجه
الاستدلال :
أن
الحديث دليل
على أنه ليس بعد الكتاب والسنة شيء يعمل به سوى الرأي[51]، فلو كان رأي الصحابي حجة لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم .
-
ومن إقرار الصحابة :
-
ما روي أن عليا رضي الله عنه تحاكم إلى التابعي شريح القاضي[52]
في درع له وجدها مع يهودي يدعي ملكها ... فطلب القاضي شريح من علي شاهدين يشهدان
له على دعواه فدعا مولاه وابنه الحسن فشهدا له ، فقال شريح " أما شهادة مولاك
فقد أجزتها لك ، وأما شهادة ابنك فلا أجيزها " فسلم علي الدرع لليهودي
...القصة[53].
وجه
الاستدلال :
أنه
لو كان قول علي رضي الله عنه ومذهبه حجة على غيره من المجتهدين لما ساغ لشريح
القاضي مخالفته في اجتهاده ولأنكر عليه علي مخالفته لقوله ، فعلي رضي الله عنه كان
يرى جواز شهادة الابن لأبيه بدليل فعله ، و شريح القاضي لا يعتد بها بدليل أنه ردها[54].
-
يعترض عليه :
أن
هذا الأثر منكر لا يصح[55]،
فعلى هذا لا تقوم به أي حجة .
-
و من الإجماع :
- أن الصحابة رضي الله
عنهم أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على
من خالفهما ولا كل واحد منهما على صاحبه في اختلافهما فيما بينهما[56].
-
اعترض عليه :
أن
هذا الاستدلال خارج عن محل النزاع ، لأن الجميع متفق على أن قول الصحابي ليس حجة
على صحابي آخر و إنما الخلاف هو في كونه حجة على من أتى بعدهم[57].
-
و من المعقول :
-
أنه لا دليل يدل على حجية قول الصحابي ويصرح بها ، كما أنه لم تثبت عصمته ، والسهو
والغلط جائزان عليه ، فلا يكون قوله حجة في دين الله تعالى[58].
-
الترجيح :
بعد
النظر والتأمل في المسألة يظهر أن مجرد قول الصحابي لا يكون حجة لذاته لعدم ظهور
دليل الحجية الصحيح الصريح والحجية لا تثبت إلا بذلك ، فإذا سلم بعدم حجيته لذاته
فتبقى مسألة النظر في مستند قول الصحابي فإن كان مستندا على ما هو حجة كالنص والإجماع
كان حجة ليس لكونه قول صحابي بل لحجية مستنده ، وإن كان مستندا على رأيه و اجتهاده
فهنا لا يسلم بحجيته لما سبق ذكره من جواز السهو والغلط عليه وعدم ثبوت عصمته ، ومثل
هذه التفرقة تستفاد وتلاحظ في استدلالات القائلين بحجية قول الصحابي ففي بعض
استدلالاتهم التصريح بأن قول الصحابي مظنة التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم
فهذا تصريح غير مباشر أن الحجية إنما أتت من السنة النبوية التي هي حجة بذاتها لا
لمجرد قول الصحابي لذاته .
وحتى
مع القول بعدم حجية قول الصحابي فإنه يبقى مدركا من المدارك الشرعية التي يمكن
الاستفادة منها لأن فيه مظنة الحجية ، ويمكن الاستئناس به حالة تعارض الأدلة[59].
ويظهر
أيضا بعد النظر في الأدلة قوة احتمال التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول
الصحابي فيما لا يدرك بالقياس وليس للعقل فيه مجال كالمقدرات الفقهية وما يأخذ
حكمها كأمور العبادات والعقائد – إن سلم ناقلها من رواية الإسرائيليات - ونحو ذلك
مما لا مدرك له إلا التوقيف فقط ، لكن عند النظر في أمر المقدرات فهي ليست كلها
مما لا يدرك بالقياس كما سيتضح في مسألة إثبات المقدرات بالقياس إن شاء الله تعالى
، بل بعضها يمكن إدراكها بالقياس فهذه لا يكون قول الصحابي فيها قويا في احتمال
التوقيف لأن مظنة النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تقل فيها ، فتنحصر في
المقدرات التي لا يمكن إثباتها بالقياس وهنا تظهر قوة مظنة حجية قول الصحابي .
وأيضا
فإن احتمالية التوقيف عن النبي صلى الله عليه و سلم تزداد في آثار الصحابة الذين
ينطبق عليهم تعريف علماء الأصول للصحابي المحتج بقوله وإلا فهم من خيرة مجتهدي هذه
الأمة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
دمتم منمنمين بالسعادة
محمد الفودري
[1] البحر المحيط لمحمد الزركشي (4/358) ، المهذب في
علم أصول الفقه المقارن للدكتور عبد الكريم النملة (3/981).
[2] لمعرفة الأقوال الواردة في المسألة تحديدا انظر
: البحر المحيط في أصول الفقه لمحمد الزركشي (4/358) ، إجمال الإصابة في أقوال
الصحابة لخليل العلائي ص 36 .
[3] كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعبد العزيز البخاري
(3/323) ، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة لخليل لعلائي ص 36 .
[4] محمد بن إدريس بن العباس الشافعي المطلبي ، أبو
عبد الله ، الإمام ناصر الحديث (150-204هـ) .
انظر : تذكرة الحفاظ
لمحمد الذهبي (1/361) ، البداية والنهاية لابن كثير (10/251) .
[5] رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب لعبد الوهاب بن
السبكي (4/518) ، البحر المحيط لمحمد الزركشي (4/363،366) .
[6] الإحكام في أصول الأحكام لعلي الآمدي (4/155) ، إعلام الموقعين عن
رب العالمين لمحمد بن القيم (4/120) ، روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة
المقدسي ص 166 ، البحر المحيط في أصول الفقه لمحمد لزركشي (4/359) ، إجمال الإصابة
في أقوال الصحابة لخليل العلائي ص 36.
[7] التلخيص في أصول الفقه لعبد الملك الجويني (3/453) ، المستصفى في علم الأصول لمحمد الغزالي ص 168، المحصول في علم الأصول
لمحمد الرازي (6/174) ، الإحكام في أصول الأحكام لعلي الآمدي (4/155) ، البحر
المحيط لمحمد الزركشي (4/358).
[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين لمحمد بن القيم
(4/129) ، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة لخليل العلائي ص 57 ، التقرير و التحبير
في علم الأصول لابن أمير الحاج (2/415) .
[14] الإحكام في أصول الأحكام لعلي بن حزم (6/237) ،
رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب لعبد الوهاب بن السبكي (4/516) ، إرشاد النقاد إلى
تيسير الاجتهاد لمحمد الصنعاني ص 172.
[15] المحصول في علم الأصول لمحمد الرازي (6/179) ، الإحكام في أصول الأحكام لعلي بن حزم (6/238) ، إجمال الإصابة في أقوال
الصحابة لخليل العلائي ص 58 .
[18] رواه ابن ماجه في سننه (1/15) كتاب المقدمة ،
باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، حديث رقم : 42 ،و الطبراني في المعجم
الكبير (18/249) حديث رقم : 624 .
[20] ضعفه ابن القطان الفاسي في كتابه بيان الوهم والإيهام
في كتاب الأحكام (4/89) و ذلك لتفرد عبد الرحمن بن عمرو السلمي به وقال عنه :
" فالرجل مجهول الحال والحديث لأجله لا يصح " ، كما ذهب لهذا الباحث
حسان عبد المنان في كتابه الذي أفرده لمناقشة هذا الحديث بجميع طرقه " حوار
مع الشيخ الألباني في مناقشة لحديث العرباض بن سارية عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين " .
[23] رواه الترمذي في سننه (5/609) كتاب المناقب ،
باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما ، حديث رقم : 3662 ، و رواه أحمد
في مسنده (5/382) حديث رقم : 23293 .
[27] رواه ابن عبد البر النمري في جامع بيان العلم و
فضله (2/91) ، ورواه علي بن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/244) .
[29] المصدر السابق ، و فيه قول ابن عبد البر :
" هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول " ، وفيه أيضا
تصريح ابن حزم بأنه حديث موضوع ، و كذلك محمد الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة
و الموضوعة (1/144) حديث رقم : 58 .
[33] المستصفى في علم الأصول لمحمد الغزالي ص 169 .
[35] المستصفى في علم الأصول لمحمد الغزالي 169 ، المحصول في علم
الأصول لمحمد الرازي (6/178) ، الإحكام في أصول الأحكام لعلي الآمدي (4/159) .
[36] إجمال الإصابة في أقوال الصحابة لخليل العلائي ص
63 ، و أثر عرض عبد الرحمن بن عوف الخلافة على علي
المذكور في المتن ضعفه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (13/197) ، وعلي الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/185) ، ورواية البخاري
التي سبقت الإشارة إليها لم تشر إلى مثل هذه الزيادة .
[38] رواه أحمد في مسنده (21/60) حديث رقم : 13350 ، والترمذي في سننه (5/33) كتاب العلم ، باب الحث على
تبليغ السماع ، حديث رقم : 2656 .
[41] أصول السرخسي لمحمد السرخسي (2/110) ، كشف
الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعبد العزيز البخاري (3/326) ، إجمال الإصابة
في أقوال الصحابة لخليل العلائي ص 73 .
[43] كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعبد
العزيز البخاري (3/326) ، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة لخليل العلائي ص 74 .
[44] النساء : 59 .
[45] الإحكام في أصول الأحكام لعلي
الآمدي (4/156) ، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة لخليل العلائي ص 68 .
[48] المحصول في علم الأصول لمحمد الرازي (6/174) ،
تخريج الفروع على الأصول لمحمود الزنجاني ص 179 ، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة
لخليل العلائي ص 69 .
[49] أصول السرخسي لمحمد السرخسي (2/109) ، الإبهاج
في شرح المنهاج لعلي السبكي (3/194) ، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة لخليل
العلائي ص 69 .
[50] انظر : سنن أبي داود (3/303) كتاب الأقضية ، باب
اجتهاد الرأي في القضاء ، حديث رقم : 3592، و سنن الترمذي (3/616) كتاب الأحكام ،
باب ما جاء في القاضي كيف يقضي ، حديث رقم : 1327.
[52] شريح بن الحراث بن قيس الكندي ، أبو أمية ،
القاضي (توفي87هـ) تقريبا .
انظر : البداية و
النهاية لإسماعيل بن كثير (9/22) ، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني
(3/335) .
[53] رواها أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات
الأصفياء (4/139) .
[55] ضعفه ابن الملقن الأنصاري كما نقل تضعيف غير واحد أهل العلم له
وذلك في كتابه البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في
الشرح الكبير (9/598) .
[58] المستصفى في علم الأصول لمحمد الغزالي ص168 ، الإحكام في أصول
الأحكام لعلي الآمدي (4/157) ، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب لعبد الوهاب بن
السبكي (4/513) ، تخريج الفروع على الأصول لمحمود الزنجاني ص 179 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق