السبت، 27 يونيو 2015

ردٌّ سني على فتاوى تحريم الصلاة خلف الشيعي

( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ، فاستبقوا الخيرات ، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )

ردٌّ سني على فتاوى تحريم الصلاة خلف الشيعي

بعد الحادث الأليم الذي حصل اليوم من تفجير لمسجد الإمام الصادق واستشهاد إخواننا المصلين الصائمين في صلاة الجمعة رحمهم الله وأكرمهم بالجنة ، تداعى عدد من الأخوة السنة الكرام للصلاة في مساجد الأخوة الشيعة الكرام تضامنا وتآزرا معهم وتأكيدا على وحدة ورابطة الدين الإسلامي .

لكن للأسف ، تسارعت بعض فتاوى إبطال الصلاة وتحريمها خلف الإخوة الشيعة مستدلة لفتواها بأن الشيعة يخالفونهم في بعض تفاصيل الصلاة والطهارة وقضايا العقائد الفرعية ومسائل التاريخ ، وكأن خلافهم دين قاطع لا شك فيه !

أقول وباختصار شديد قطعا للطريق على الفتاوى التي أخشى أن تنتج الفتن ، وتفاعلا مسؤولا مع موجة الترابط والتقارب الديني المطلوب شرعا وعقلا ووجدانا ، وبما أدين الله أنه الأقرب لدينه ومرضاته دون مجاملة لأحد في مناقشة وحكم صلاة السني خلف الشيعي :

يستدل المبطل لصلاة السني خلف الشيعي بثلاثة محاور أساسية :

المحور الأول : صفة الوضوء : تحديدا عدم غسل الوجه كاملا ، ومسح الرجلين بدلا من غسلهما .

1- أما عن عدم غسل الوجه كاملا في الوضوء  :

فيتفق كل من السنة والشيعة على تحتم غسل الوجه في الوضوء مع اتفاقهم في أن حده بالطول من منابت الشعر عادة إلى الذقن .

أما الخلاف بينهم فهو حد الوجه في العرض :

- فمن السنةِ من رأى أنه من الأذن إلى الأذن ، ومنهم يرى النقص من هذا الحد إلى العوارض .

- أما الشيعة فلا يشترطون أن يكون امتداد العرض من الأذن إلى الأذن ، بل ما اشتمل عليه الأصبع الوسطى والإبهام عرضا . ( عرض كف واحدة )

كلا الفريقين يفتقر إلى النص القطعي المحدِّد في المسألة  ، كما أنا لو أخذنا عمدة استدلال السنة في تحديد نطاق الوجه لوجدناها مبنية على دلالة اللغة من أن الوجه من المواجهة والواجهة ، وهذا لا يفيد تحديدا دقيقا قاطعا لحد الوجه حتى يكون ملزما بل ظنيا وعرفيا .

والحد الذي يجزئ في الوضوء لدى الأخوة الشيعة تنطبق عليه صفة المواجهة ، ولا نص بتحديد عرض الوجه إلى الأذن أو العارض وإنما مدار المسألة على ظنون ، فيجزئ قول الشيعة إذ تنطبق عليه صفة الوجه قطعا .

وما أدين الله به هنا أن قول الشيعة صواب مجزئ لا تلزم الزيادة عليه ، مع استحبابي تدينا الخروج من الخلاف بالزيادة إلى العوارض ، ومع تأكيد أن المسألة من حيث الأدلة مرنة لا عنت فيها ، ( ولو شاء الله لأعنتكم ) لكن لم يفعل سبحانه ،  فما بالنا نفعل ذلك ونصنع من الظن عداوة ؟

شبيه وقريب من هذا الخلاف السني - الشيعي ، الخلاف السني – السني في تحديد ما يجزئ في مسح الرأس ، ففي الفقه السني  قيل بمسح كل الرأس وقيل بمسح ربع الرأس وقيل يكفي مسح 3 شعرات ولكلهم ظنون مختلفة .
إن استسغنا خلافنا السني الداخلي فخلاف الشيعة في حد الوجه ليس عنا ببعيد ، وحسبنا أننا ندور حول ظنون .

2- مسألة مسح الرجلين في الوضوء :

الغريب في هذه المسألة أن أدلة الفريقين السنة والشيعة هي نفسها لكن يختلف توجيهها ، خاصة أهم أدلة المسألة :

- فمن القرآن الكريم :
- قوله تعالى : ( وامسحوا برؤوسِكم وأرجلكم إلى الكعبين )

اختلف القراء العشر المعتمَدُ على ضبطهم لكلمات وتشكيل آيات القرآن ، في حركة اللام من كلمة ( أرجلكم ) على قولين مُعتمَدين متقابلين :

1- قراءة كسر اللام ( وأرجلِكم ) : أي أنها معطوفة على الرأس الممسوح بنص الآية ، فبالتالي يكون قول الشيعة صوابا لا خطأ فيه بأن الرجل لها حكم المسح كالرأس .
وأما حمل بعض علماء السنة قراءة الكسر على أنها للخفين فمصادمة للنص المحدد إلى الكعبين وفيه تشغيب وتقويل للنص ما لم يقله .

2- قراءة فتح اللام ( وأرجلَكم ) : فبالتالي تكون معطوفة على اليدين المغسولتين ، وبهذا استدل السنة أن الرجل لها حكم الغسل !

ولو لم يكن للشيعة من دليل على مسح الرجلين سوى ما سبق من قراءة كسر اللام لكفاهم ، وهو دليل قرآني قطعي فكيف إن أضيفت إليه بعض من مرويات السنة وعمل الصحابة التي هي من مصادر الاحتجاج في الفقه السني ؟

فروى علي بن أبي طالب – وهو من القائلين بالمسح - أنه قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما " ، أي الرجلين ولم يأت الأثر في سياق الخفين .

- ولما سئل ابن عباس عن غسل الرجلين في الوضوء قال : " إن الناس أبوا إلا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلا المسح " ، وكان يقول أيضا : " ما أجد في كتاب الله إلا مسحتين وغسلتين " .

- وكان أنس ينكر على الحجاج الثقفي قوله بغسل الرجلين وكان يمسحهما .

وقد اختار مسح الرجلين في الوضوء بعض من السلف كعكرمة مولى ابن عباس والشعبي والحسن البصري وقتادة وابن جرير الطبري .

- أما حديث ويل للأعقاب أو العراقيب من النار الذي يستدل به السنة في صراحة غسل الرجلين ، فليس فيه حجة للطرفين سواء السنة أو الشيعة لا في الغسل ولا في المسح إذ ليس فيه تحديد لفظي بل يحتمل معناه الأمرين .

ما أدين الله به في هذه المسألة هو نفس اختيار السُّنِّيَين التابعي الحسن البصري وشيخ المفسرين ابن جرير الطبري حيث قالوا بالتخيير بين مسح الرجلين وغسلهما لأن الخلاف هنا في القراءات القرآنية التي جرى اعتبارها ولها قوتها التشريعية الملزمة ، وهو قول جامع للأقوال مزيل للتعارض في هذه المسألة التي تتجلى فيها قوة رأي الطرفين .

لو تأملنا خلاف الشيعة وأدلتهم في هذه المسألة لما كان بعيدا عن خلافات المذهب السني نفسه في مختلف القضايا ، ولكن قاتل الله العصبية كم أعمتنا !

عزيزي السني قد رأيت قوة مباني وضوء الشيعي وأن الخلاف معتبر له نصيبه من القرآن والسنة وعمل السلف ، فهل ستجعل خلافا مثل هذا سببا للتفرقة المنهي عنها !

الثاني : الاختلاف في صفة الصلاة .

 يكفيني هنا أن الخلاف في صفة الصلاة من المستحيل القطع فيه بين المذاهب السنية نفسها فضلا عن المذهب الشيعي .

فلو رأينا أركان الصلاة التي لا تصح الصلاة بدونها أبدا فسنجدها  في الفقه الحنفي 6 ، وعند المالكية 11 ، وعند الشافعية 17 ، وعند الحنابلة 12 .

وهذا الخلاف في الأركان فقط دون التطرق لخلافهم في الشروط والواجبات !

فإن أتيت لموضوع وأركان الصلاة وواجباتها في الفقه الشيعي فستجدها لا تخرج عن شيء مما هو موجود في المذاهب السنية التي يصلي السني خلفها ، فما الفارق ؟

إن تغافلنا عن خلافات الفقه السني رغم اتساعها فالفقه الشيعي ليس بمختلف عنها أبدا بل مقارب لها ومن جنسها .

وهذا التفاوت الكبير بين المذاهب الإسلامية عموما نجد سببه عدم صراحة نصوص صفة الصلاة وكونها مستفادة إجمالا من دلالات ونصوص ظنية محتملة يعسر القطع فيها .

والله الذي فصّل صفة الوضوء في القرآن لم يكن عاجزا عن تفصيل صفة الصلاة أيضا ، ولكن سبحان من يسر الدين .

إن لم ننتبه لهذه الجزئية وأحلنا خلافيات صفات الصلاة إلى مسألة قطعية فنحن مستدركون على الخالق مخالفون لمقصده ، معاذ الله من ذلك .

فخلاصة رأيي هنا أن صلاة السني خلف الشيعي كصلاة الشافعي خلف الحنفي وكصلاة الحنبلي خلف المالكي وكصلاة الزيدي خلف الإباضي ... إلخ

هي صلاة أي مسلم خلف أخيه المسلم الذي بنى أحكام الوضوء والصلاة على أحكام القرآن ونصوص الروايات بغض النظر عن مذهبه .

المحور الثالث : الخلاف في قضايا العقائد والتاريخ :

أهم أركان الإيمان التي نص عليها القرآن وحرَّص عليها خمسة : هي الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين .

ومختلف الطوائف الإسلامية تؤمن بهذه الأركان وتُكَفِّر من يَكفُرُ بها ، ما عدا هذه القضايا خلافٌ هينٌ بالنسبة إليها تتنازعه الظنون والاحتمالات والأعذار ، انظروا أين أكثر خلافات عموم الطوائف الإسلامية في مسائل الاعتقاد ؟ ليست ضمن الخمسة المؤكد عليها قرآنيا بل دونها حتما ، ومجملها فيما لا نص قطعي فيه .

إن تشنجَ سنيٌّ في بعض مسائل الاعتقاد لدى الشيعة فالمسكين لم يعرف مدى خلاف المذهب السني نفسه في بعض مسائلهم الاعتقادية ومع ذلك ما زال يصلي بعضهم خلف بعض – إلا في استثناءات تاريخية مظلمة يدينها الجميع - .

ومن يصر على التشنج مع الشيعة فيلزمه أن يحترم هذا الحدة في الخلاف مع المذاهب السنية ليجد نفسه في النهاية يصلي منفردا دون إمام ، فدينه لا يتسع لنملة .

تعالى الله الذي يسر القرآن وأحكم كتابه وشرع الخلاف ونهى عن الافتراق أن يريد بدينه ذلك .

أما القضايا التاريخية المتمثلة فيما صدر عن الصحابة خاصة من نزاعات فخلاف لا علاقة له بأساس ومحكمات الدين حتى يوالى ويعادى عليه ، اكتمل الدين ومات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل حصوله فكيف يجعل منه اليوم دينا ؟!

فحاصل الخلاف العقدي والتاريخي أنه أتفه من أن يشق صف المسلمين ويبعدهم عن الإسلام ويكون سببا لتحريم الصلاة خلف بعضنا بل وأن يكون سببا لمخالفة محكمات القرآن : ( واعتصموا بحل الله جميعا ولا تفرقوا ) ، ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) ، ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ، ( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) .

فإذا بطلت المحاور الثلاثة التي يستند عليها المفتي المحرِّم للصلاة خلف الشيعة بطلت فتواه ، ونحن  إذا لسنا سوى أمام حالة صلاة مسلم خلف أخيه المسلم ، يختلف معه في مسائل فرعية ليس لها ضررها على صلاتهما ولا إسلامهما .


ختاما :

أعتذر عن عنوان البحث المنشور فهو ليس إلا لشد الانتباه ، وإلا فهذا البحث ليس سوى دفاع مسلم عن رأي واجتهاد إخوانه المسلمين والصلاة خلفهم .

وطرحت الموضوع موجزا موفيا لغرضه لما اقتضاه الظهور السريع لفتاوى التفرقة ، وتفصيله وتوسعته جاهزة للمستفسرين .

وأمنيتي أن أرى مساجد الكويت كمساجد الشقيقة عمان ، تسع جميع المسلمين رغم اختلاف مذاهبهم  ، حينها أدرك أن وعينا الديني قد تطور لمراحل لا يمكن أن تنجح داعش ولا غيرها في اختراقه ولا شق وحدته ، وهذا ممكن إن تغلبنا على العادات ، وعملنا بمحكمات الدين ، مدركين لحتمية خلاف البشر ، منتبهين لمقاصد القرآن .
وما يفعله الكويتيون اليوم مؤشر إلى إمكانية ذلك في القريب لا البعيد بإذنه تعالى .


أدعو الله أن تكون هذه الكلمات اليسيرة داخلة في قوله الكريم : ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) وأن يهدينا صراطه المستقيم .


ودمتم منمنمين فقها وتسامحا وأخوة

كتبه
محمد جاسم الفودري
باحث حاصل على درجة الماجستير في الفقه والمقارن وأصول الفقه

الأحد، 7 يونيو 2015

العين الحارة والنظرة الوردية



العين الحارة والنظرة الوردية

دار نقاش أكاديمي طريف بين الدكتور وطلاب الدراسات العليا حول قضية العين الحارة .
إذ أثناء مناقشة آيات الحسد قال الدكتور : أستغرب ممن يُفسر آيات الحسد بالعين دون التفات إلى أن شر الحاسد الفعلي هو مادي ملموس محسوس ، فالحاسد قابيل مثلا لم يقتل أخاه هابيل بشر عينه بل بفعله وجنايته الملموسة ، وكذلك فعل قبله إبليس مع آدم .
اعترض الطلاب على الأستاذ مسطرين أمامه آراء المفسرين وأخبار المحدثين المثبتة للعين ، فانتظر الدكتور هدوءهم ليباغتهم بسؤاله : طب لو اللي بتقولوه سليم ليه ما نجيب عشرة بتوع عين ونسيبهم يخربوا بيت إسرائيل ؟!
فعم الصمت ليبدأ ضجيج السؤال ...

يتفق الحسد والعين في أن كليهما تمني زوال نعمة المحسود ، لكن تختص العين عند معتقديها بأنها نظرة استحسان لتلك النعمة بقصد إهلاكها مشبهينها بسهام تنطلق من العين لتحدث ضررا بتلك النعمة أو صاحبها ، لكن هل مجرد هذه النظرة الشريرة للأشخاص المحسودين مؤثر وضار بهم دون ريب 100% أم أن للمسألة أبعادا أعمق ؟
 لا شك أن تمني زوال نعم الآخرين خلق ذميم دال على دناءة صاحبه تاركا عليه نارا في صدره وتبعات مؤذية أخرى ، كما أن هناك آثارا جانبية أشد قبحا للاعتقاد بوجود العين وتأثيرها لا تقل دناءة عن رذيلة الحسد .
فالاعتقاد بتآمر الناس على المحسود ورؤيتهم كأشرار مبيدين لسعادته ومتحكمين فيها مرض وسوء ظن مؤلم مدمر للنفس قبل الغير لا يدع صاحبه مرتاحا من الهموم والغموم .

فعند الحسود ينقلب المدح سُمّا ، والإعجاب لُغْمًا ، وتنقلب الحوادث العادية إلى مؤامرات ، ويتحول الأقربون إلى أعداء تُخبَّأ عنهم المعلومات ، وبدلا من تحمل الفشل الشخصي سيكون الآخرون شماعة أخطاء ذلك المحسود المَلاك ، كل ذلك بسبب فكرة العين الضارة التي لا تُرى ولا يُدرك فاعلُها بأي وسيلة .

لو تأملنا في أصول فكرة العين الشريرة المنتشرة في مجتمعاتنا لوجدنا لها ثلاثة أسس ، فيما يلي عرضها مع المناقشة :

الأساس الأول : تراثي يتضمن نسبة دينية :

لَما تأملت في الآثار الجانبية للاعتقاد بوجود العين وأدركت مدى دناءتها وسوء أثرها النفسي على المعتقد بها تساءلت :
هل يمكن للإله الرحمن الرحيم الحكيم الذي جعل كيد الشيطان ضعيفا أن يشرع مثل هذا الاعتقاد الوضيع ويجعل لأشرار البشر مثل هذه السلطة اللعينة على أهل النعم بل وقوة تنافس قدرته الإلهية كما تزعم الأخبار ؟
الحمد لله أني وجدت الدين بريئا من تلك التهمة ، فليس في القرآن أي نص صريح في مسألة العين إطلاقا ، وكل ما فيه من آيات الحسد في مواضعها الأربعة لا دخل لها بالعين أبدا .
فالله ذكر تمني بعض أهل الكتاب لزوال إيمان المؤمنين ( حسدا من عند أنفسهم ) ولم يترتب على ذلك الحسد شيء .
 كما أنه في سورة الفلق أمرنا بالاستعاذة ( من شر حاسد إذا حسد ) لا من شر الحسد ؛ فالحسد نفسه غير مضر بل الضرر يأتي من  صاحبه الحاسد بالسعي والفعل ، ولا ارتباط بالعين هنا .
وأما الذين ( يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) فما ضروهم بعينهم أبدا .
وأما المخلفون من الأعراب الذين قالوا ( بل تحسدوننا ) لم يكونوا يريدون أبدا أن المؤمنين يضرونهم بأعينهم .

إذن فمن أي نص قرآني أثبتوا قضية العين ؟

من أحب أن يغلف معتقده بالعين بالحارة بنصوص قرآنية قد فعل ذلك في النصوص التالية :
1- فَسَّر قولَ يعقوب عليه السلام لأبنائه المتجهين إلى مصر ( لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ) بأن سببه كان الخوف عليهم من العين نظرا لجمالهم وأخوتهم في نفس الوقت !
رغم أن الآية لم تنص على العين ، ورغم أن التفسير الواقعي البعيد عن تكلف الخوارق هو خوفه عليهم من أذية حراس البوابات ، إذ لو كان نهي يعقوب خوفا من العين لاستمر النهي في سكك المدينة أيضا إذ العيون الحارة لا يقتصر اجتماعها عند البوابات ، ولماذا لم يعلمهم الأذكار الواقية من العين وهو النبي ؟ أليس أيسر لهم بدلا من الدخول من أبواب متفرقة ؟ أم أنه كان يجهلها ؟
في حمل القصة على العين هنا إساءة لا أرتضيها لنبي الله يعقوب عليه السلام وتشويه لأجمل القصص لا أرتضيه ، وللأسف لا بواكي للتفسير الخالي من التكلف والقريب من الواقع لأجل الاعتقاد بك أيتها العين الشريرة !
2- في قوله تعالى ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) فَسَّر الآية بالإصابة بالعين ، رغم أن ظاهر السياق واللغة ضده تماما .
إذ لو كان القصد من ( ليزلقونك بأبصارهم) إصابته بالعين لما قالوا ( إنه لمجنون ) ، فالعائن بالعادة يظهر إعجابه بمن يحسده وسياق الآية سياق ذم وانتقاص لا إعجاب .
بل المعنى اللائق بالسياق هنا بلاغي يفيد أنهم كانوا ينظرون إلى النبي نظرة الحقد والبغض من شدتها تكاد أن تؤذيه ، كقول العرب : كاد يَصْرَعُني شدَّةُ نظره ، وهو تعبير دارج بين العرب دال على شدة البغضاء كما ذكرت قواميس اللغة ، فلا علاقة له بالعين .
وأما ما يورد من الآيات الأخرى فالاستدلال بها على العين مسيء للآيات نفسها ومعناها وسياقها ، لذا نصرة للقرآن لا للعين فلنوقف الاعتباط بالأدلة .
حسنا ، لكن ماذا عن أخبار المحدثين المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟
طالما أن إثبات قضية العين ليس معتمدا على قطعيات النصوص فمناقشته وردها أيسر ، إذ كم من أخبار زعمت أنها في الصحاح والقرآن يبطلها ويخالفها صراحة كادعاء الرواة سحر النبي ووجود الاكراه على الدين ووجود معجزات غير القرآن وغيرها كثير ، فلا يبعد أن تكون قضية العين منها .
وعند فهم قضية العين يجب الانتباه أنها كانت من معتقدات وموروثات العرب في الجاهلية ، فلا يبعد أن تعطى طابعا دينيا عند معتنقيها كما حصل مع غيرها من القضايا ، وهو واقع في تراثنا الإخباري حيث تجد أن عرب الجاهلية كانوا جبرية قدرية فظهرت نصوص القدر والجبر تماشيا مع التيار ، بل منها ما جعل القدر الجبري ركنا رغم انعدام إشارة القرآن له ضمن بقية أصول الإيمان .
لذا أن تنعدم تصريحات القرآن الكريم عن مثل هذه القوى الغيبية المخيفة المبيدة للنعم ويترك إثباتها للوسائل الأضعف لهو علامة قوية على ضعفها وعدم صحتها ، وسيفهم هذا الكلام من اشتغل بعلم الحديث متحررا من سجون أهله .
وعلى فرض صحة نصوص العين فلا أجد لها محملا حسنا يليق بخاتم الأديان إلا من باب مجاراة القوم في عاداتهم الدنيوية التي يصعب تغييرها كما جاراهم النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة المفترض ونحوها ، لذا أخذت علاجاتها طابعا نفسيا لمن يتأملها كالأذكار والوضوء .
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم – إن سلم  بصحة نصوص العين الحارة – خاطب العقلية السائدة المؤمنة بالعين بما يناسبها وعالج الفكرة بفكرة مثلها . وسيتضح هذا المعنى أكثر عند تناول النظرة الوردية  لقضية العين .

الأساس الثاني : علمي :

يستدل مثبتو العين الشريرة - في الآونة الأخيرة خاصة بعد نشر المبدع الفاضل د وليد الفتيحي في برنامجه الشيق ومحياي حلقة عن أثر العين الشريرة  التي تبحث علميا تحت مصطلح Evil Eye  - بعالمين يدعيان وجود سند علمي لتأثير العين ، مع كل الاحترام للدكتور الفاضل لكن استدلاله بالعالمين محل اعتراض علمي لما يلي :
الأول : كولن روس Colin Ross الطبيب النفسي والمدرب المختص بمعهد روس لعلاج الصدمات النفسية بولاية تكساس الأمريكية ، استُدل ببحثه الذي يثبت فيه أن العين تطلق شعاعا كهرومغناطيسيا يمكن قياسه تجريبيا معبرا عن طاقة منبعثة .
للأسف لم ينتبهوا أن كولن روس قد اعترف لاحقا للموقع العلمي The Skeptic's Guide to the Universe أنه قد زيف التجربة وتلاعب بها ، مما يعني أن استنادهم باطل مزيف باعتراف صاحبه .
الثاني : هيروشي موتويام Hiroshi Motoyam ، وهو ياباني حاصل على الدكتوراه في علم النفس وفي الفلسفة أيضا ،  لا دخل لمؤهلاته بالتكنولوجيا ، حيث ادعى قديما ومنذ الثمانينات أنه صمم جهازا دقيقا لقياس طاقة منبعثة من بين العينين ، ظنوا أنه مركز العين الشريرة .
وللأسف فليس هيروشي موتويام مختصا في هذا المجال بل وأبحاثه قديمة لم تترجم للإنجليزية إلا متأخرا فتحتاج إلى مراجعة علمية ، كما أن كلامه ليس عن العين الحارة بل عن ما يعرف بالفلسفات الشرقية بالتشاكرا وكان يتكلم عن العين الثالثة التي هي مكان يشير إلى منتصف الجبهة من الأسفل لا عن العينين ، فليس كلامه محل احتجاج .
واستباقا لأي استدلالات متشابهة فإن علم هذه الظواهر المسمى بالباراسيكولوجي لا يزال حديثا حتى يثبت نفسه علميا فمن الاستعجال الأخذ بكافة نتائجه والتنظير عليها دون نضج .

الجانب الثالث : التجارب البشرية :

ما أن تفتح موضوع تجارب محيطك مع العين حتى تسمع فيضا من القصص تكاد تجبرك على تصديقها ، لكن ماذا عن حقيقة تلك التجارب ؟
لم يشاهد أحد تأثير العين وأدركه ، وربما كان مصادفة واحتمالا تحقق مرة فبالغ الناس في نقله حتى صنعوه أسطورة .
انظر إلى حال من يتهمهم الناس بأنهم " وحدة بوحدة " " عينه والقبر " " لا يحوشك " ستجد أنه كل ما حصل أنه صادف موقف أو موقفان توافقا مع كلامه من بين مئات محاولات العين الفاشلة فجعل الناس منه " بوعين حارة شقاقية " وجعلوا من الحبة قبة كما هي عادة البشر في كوكب الأرض .
لماذا لا يتمكن صاحب العين الحارة من التحكم بعينه طول الوقت موقعا الضرر على الناس 24 ساعة 7 أيام في الأسبوع ؟ أم يبدو أن عينه الحارة لا تعمل إلا نادرا ؟
لو كان له قدرة كاملة عليها وكونها قوة حقيقة مؤثرة لنجب على سؤال الدكتور السابق : ليه ما نجيب عشرة بتوع عين ونسيبهم يخربوا بيت إسرائيل ؟

النظرة الوردية

حسنا ربما كان هناك جانب غريب غامض في الموضوع يجب التطرق له – حتى لا أتهم بالتحامل على قضية العين الحارة على الأقل -  ففي الكتاب الماتع المثير للقلاقل والضحك " خوارق اللاشعور " للمرحوم د علي الوردي تناول قضية العين بشكل جاد ذاكرا ملاحظاته من نظرته الوردية الجديرة بالتأمل .

لاحظ الوردي حوادث إصابات العين محاولا فهمها والتطرق لعلاجها وطريقة عملها ، فانتبه إلى أن سببها الرئيسي فكرة يعتقدها صاحبها فتضره أو تنفعه .

وللتقريب : فإنه يقال في التراث : " من اعتقد في حجر نفعه " أي كونك تعتقد بشدة أن هذا الحجر يضرك أوينفعك فسيكون لهذا الحجر تأثير عليك ، لا لكونه مؤثرا فعلا ، بل لأنك فكرت واعتقدت أنه كذلك ، وللعلم فإن فكرة العلاج بالأحجار الكريمة تدور حول هذا المبدأ .

وهذا هو الحاصل في قضية العين الحارة ، " إن العين لا تصيب إلا من يعتقد بها " – أي الإنسان الناجح الذي يظن أنه دوما محسود وضحية لعين الحساد – " وهذا الاعتقاد يجعل الأمواج  الصادرة من صاحب العين ذات أثر متسلسل في أعصاب الضحية فتطرحه أرضا " .

ولاحظ الوردي أيضا " أن حوادث إصابة العين لا تقع إلا في المجتمعات الجاهلية التي يسهل انتشار الخرافات فيها " – لا يقصد العالم العربي طبعا – " فما أن يسمع الناس عن شخص له عين فتاكة حتى تراهم قد هربوا من وجهه ، وهذا الجو النفسي المخيف يؤدي إلى سقوط كثير من الضحايا بطريق الإيحاء " .

أي خلاصة ما يريده قوله عالم الاجتماع النادر علي الوردي : أن المجتمع نفسه الحاسد والمحسود كلهم مسؤول عن وقوع ضرر العين ، فعندما نوهم الحاسد أن له عينا حارة مؤذية فنحن نعطيه هيبة وإيحاء بقدرته على ضرر الآخرين .

وعندما يعتقد المحسود أن لِحساده سلطة وتأثيرا على الإضرار به فهو نفسه من سمح لهم بالإضرار به نتيجة لتفكيره وعقيدته التي تمنح للناس هذه القوة ، ففي الواقع المحسود هو المسؤول الأول والأخير عن حوادث العين الواقعة له .

وعلى ما تقدم يكون أفضل علاج للوقاية من العين الحارة وانعدام تأثيرها والتخلص منها نهائيا هو عدم الاعتقاد بوجودها أصلا ومعاملتها كخرافة .

ولهذا كتبت هذا البحث خدمة لهذا العلاج مكافحة لمرض نفسي منتشر .

ختاما :

صدق القائل: مجتمعنا منشغل بالخوف من العين ، أكثر من انشغاله بعمل شيء يستحق أن يحسد عليه !
بيد الإنسان صناعة سجونه ومخاوفه كما بوسعه العيش حرا ، وبوسعه تبني الأفكار المنمية له أو المميتة لنفسه ، والشريعة وسيلة والحياة محايدة ، وكل نفس مسؤولة عن نفسها ، عن نجاحها وفشلها ، لذا ليتوقف اللوم وتوزيه الاتهامات ولتبدأ المحاسبة ، أما إن ظل الإنسان يلوم أشباحا لم يراها فهو الخاسر الأكبر الذي قتلت طموحه  أعذاره .

أدرك أن هذا البحث سيضايق تجار الرقية الشرعية ومحلات البخور .

دمتم بوعي

محمد جاسم الفودري